“الحاكم” مُدان شعبيًا وقانونيًا بانتظار إزاحة الخيمة الطائفية والسياسية! | كتب أحمد بهجة
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في موازاة الانشغال اللبناني الحكومي والنيابي والشعبي بالأزمات الاقتصادية والمالية والحياتية التي وجد فيها اللبنانيون أنفسهم في أتونها ومن دون سابق إنذار، تتفاعل قضية محاكمة بل محاكمات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في الأوساط الرسمية السياسية والقضائية، في ظلّ رفضه المثول أمام النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون للتحقيق معه في جرائم مالية عدّة مرفوعة ضدّه من جانب ناشطين بتهم الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال وتبديد المال العام واقتراف الغش.
وزادت قضية سلامة حرارةً إثر تواريه عن الأنظار يوم الثلاثاء الماضي موعد جلسة التحقيق معه التي حدّدتها عون، واختفائه المفاجئ من منزليه في الرابية والصفرا ومن مكتبه في المصرف أثناء توجه دورية من جهاز أمن الدولة لتنفيذ مذكرة جلبه وإحضاره إلى مكتب القاضية عون التي كانت قد أصدرت المذكّرة بعد رفض سلامة الخضوع للقانون والتحقيق معه ثلاث مرّات. وكاد موقفه برفض تنفيذ المذكّرة، أن يتسبّب بإشكال كبير بين الدورية وفريق قوى الأمن الداخلي المولج بحمايته، فيما تردّد أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي هو الذي عرقل التبليغ بطلب من السفيرة الأميركية دوروثي شيا، علمًا بأنّ ميقاتي بات على علم بأنّ نجم سلامة آيل إلى الأفول قريبًا بطلب أوروبي، كي يُكتب النجاح لخطّة التعافي الاقتصادي التي تنكبّ الحكومة على إعدادها وللتدقيق الجنائي في حسابات المركزي. إلاّ أنّ القاضية عون أعلنت أنها مدّدت مفاعيل مذكرة ملاحقة حاكم المركزي حتى تنفيذها.
والمفارقة الفاضحة في قضية سلامة هي تحويل قضيته إلى مسألة طائفية على غرار كلّ المناصب الرسمية العليا التي يتولاها المتنفّذون في الدولة، إذ تحوّل البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى رأس حربة الدفاع عن سلامة ورسمِ خطّ أحمر حوله، بالرغم من وجود دعاوى قضائية عديدة محلية أوروبية ضدّه، تُطالب بمساءلته عن مصادر ثروته الطائلة المتعدّدة الجنسيات ومفاعيل هندساته المالية وتجاوزه مهامه الوظيفية المنوطة به بموجب قانون النقد والتسليف والتواطؤ مع المصارف من خلال تأكيده منذ تعيينه حاكمًا للمركزي عام 1993، بدعم من الرئيس الراحل رفيق الحريري، أنّ قيمة العملة اللبنانية ثابتة ومستقرّة، ما أغرى المصارف بوضع أموالها في مصرف لبنان والإفادة من الفوائد العالية ومراكمة الدين العام.
والمفارقة الأخرى، المتشعّبة عن الأولى هي اتهام القاضية عون بأنها تنفّذ أجندة سياسية للعهد بواجهة قضائية، لكن هذا الاتهام تدحضه جملة معطيات أبرزها الدعاوى القضائية التي رفعتها ضدّ سلامة، جمعيات أمام المحاكم الأوروبية في سويسرا وفرنسا ولوكسمبورغ، فيما طلبت ألمانيا أخيرًا معلومات تتعلق بوضعه المالي، إضافةً إلى اتهامات سابقة بتحويل نحو 400 مليون دولار إلى سويسرا من مصرف لبنان، بطريقة غير نظامية بمساعدة شقيقه ومساعدته.
كما أنّ كلّ ما تطلبه القاضية عون هو إدلاء سلامة بدفوعه عن التهم المساقة بحقّه، وهو لديه خيارات دفاع قانونية عديدة استنادًا إلى الصلاحيات التي يوليها إليه قانون النقد والتسليف وهي واسعة جدًا ومن دون حصر، إلاّ إذا كانت ممارساته خرجت عن المفهوم القانوني للصلاحيات خاصة أنّ لحاكم المركزي صلاحية واحدة وهي بحسب القانون المذكور “الحفاظ على ثبات وسلامة النقد في لبنان” وليس لديه أيّ مهام أخرى لجهة التدخل في الاقتصاد اللبناني أو إنشاء وتملّك شركات، لكن الحاصل مع سلامة، بحسب الاتهامات القضائية، هو العكس تمامًا.
ويبقى السؤال في حال استمرار رفض “الحاكم” المثول أمام القضاء، هل سيبقى الوضع على ما هو عليه أو بمعنى آخر، ألا يُمكن قانونًا إقالته أو على الأقلّ كفّ يدّه عن الحاكمية كونه، في آخر المطاف، موظفًا لدى الدولة اللبنانية؟
يُحدّد قانون النقد والتسليف أربع حالات إذا توافرت إحداها يُمكن إقالة حاكم المركزي وهي:
1 – العجز الصحي الدائم المُثبت بحسب الأصول.
2 – الإخلال بواجبات الوظيفة.
3 – مخالفة المادة 20 من قانون النقد والتسليف التي توجب على الحاكم ونوابه التفرّغ كليًا للمصرف المركزي وعدم الجمع بين وظائفهم وأية عضوية نيابية أو وظيفة عامّة أو أيّ نشاط في أية مؤسسة مهما كان نوعه وعدم الاحتفاظ أو أخذ أية منفعة في مؤسسة خاصة.
4 – الخطأ الفادح في تسيير الأعمال.
لكن المعضلة هنا، هي أنّ هذا الأمر منوط بمجلس الوزراء وفق القاعدة القانونية التي تنصّ على “موازاة الصِيَغ”، أيّ الصيغة التي يتمّ فيها تعيين الموظف هي نفسها فقط التي تُطبّق في إقالته، وطالما الحماية السياسية لسلامة مستمرّة فمن المستحيل تأمين الغالبية في مجلس الوزراء لإقالته في حال ثبوت الحالتين الثانية والرابعة مع الإشارة إلى أنّ حاكم المركزي بالرغم من صلاحياته الواسعة ليس له حصانة خاصة ومميّزة لتحريك موضوع إقالته أو كفّ يده.
وفي الخلاصة يبقى هذا الملف الشائك ليس بيد القضاء فحسب بل في عزيمة القضاة وجرأتهم على إحقاق الحقّ إنْ وُجد، علمًا بأنّ مؤشرات هذا الأمر بدأت بالظهور وأبرزها صمت النيابة العامّة التمييزية عن إجراءات القاضية عون المتخذة بحق “الحاكم” على عكس ما كانت تتخذه، التمييزية، من إجراءات في الماضي، ما اضطّر “الحاكم” إلى التواري صبيحة تنفيذ مذكرة إحضاره مخفورًا إلى قوس العدالة، مع الإشارة أيضًا إلى أنّ المذكّرة ما زالت سارية المفعول وما زالت أيضًا خيمة سلامة في مجلس الوزراء…
بمعنى أنّ الجرائم المالية والاقتصادية معروفة ومكشوفة أمام الجميع، والإدانة القانونية لـ “الحاكم” هي تحصيل حاصل، ويبقى العائق السياسي هو الحائل حتى الآن أمام مساءلته ومحاسبته ومحاكمته وإقالته، لكن السياسة دوّارة وعلى الباغي تدور الدوائر…