الحلول إما أن تكون شامِلةً عادلةً ومنصِفَة، وإلا فهي فِتنَةٌ أزمَوِية | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
فاضَت وسائطُ التَّواصُلِ الاجتِماعي في السَّاعاتِ القَليلَةِ الماضِيَةِ بتَعليقاتٍ ساخِرَةٍ ناقِدَةٍ رافِضَةٍ لمَضمونِ خَبَرٍ نُشِرَ عَبرَها مَفادُهُ أن “المَصارِفَ تَبَلَّغَت من حاكِمِيَّةِ مَصرِفِ لبنان “تحويلَ رَواتِبِ القُضاةِ من 1500 ل ل عال 8000 ليرَةٍ يُدفَعُ كامِلُ المَبلَغِ نقدًا…”، مِما لا شَكَّ فيه أن هذا القَرارِ يَحِدُّ من مُعاناةِ القُضاةِ المادِّيَّةِ ولكن لا يَنصِفُهُم، من وطأةِ انهيارِ القيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعِملةِ الوَطَنِيَّة.
ومما لاشكَّ فيهِ أن هذا القرارُ غير القانوني موجِبٌ للطَّعنِ والإدانَةِ لكونِهِ غيرِ دُستوريٍّ ويَتعارَضُ مع مبادئ العَدلِ والإنصاف، ولِصُدورِهِ عن مَرجَعٍ غَيرِ مُختَصٍّ (ومُلاحَقٍ قَضائيَّاً)، وخارِجَ إطارِ الاعتِماداتِ المَرصودَةِ في المُوازَنَة، ولكونِهِ يَنطَوي على ظُلمٍ لعُمومِ المُوَظَّفينَ، وجاءَ رَدَّاً على التِماسِ مَنفَعَةٍ تَقومُ فِئويَّة. هذا القرار بغض النَّظرِ عن عدمِ مَشروعِيَّتِهِ أو كونهُ ليس الأوَّلُ من نوعِه، إذ سَبقَقَ وٌاتُّخِذَت قراراتٌ مُشابهةٌ على غرارِ ما حَصَلَ بالنِّسبَةِ لاحتِسابِ رَواتِبِ النُّوابِ والعامِلينَ في مَصرَفِ لُبنان، سَيدفَعُ إلى مَزيدٍ من التَّأزّيمِ في القِطاع العام، وسَتَجِدُ الدَّولَةُ ذاتِها، عاجِلاً أم آجِلاً، مُضْطَرَّةً إلى الاستِجابَةِ لمَطالِبِ مختلِفِ فئاتِ المُوظَّفين.
مِثلُ هذا القرارِ لم يَعُد مُستَغرَباً في ظِلِّ السِّياساتِ التَّرقيعيَّةٍ المُنتَهَجَةِ في لبنان، بلدُ العَجائبِ والغَرائبِ السِّياسِيَّة، حيثُ القَراراتُ مُرتَجلَةٌ وعَشوائيَّة، وبخاصَّةٍ في ظِلِّ سِيَاسَةِ تَمريرِ الوَقتِ باستِرضاءِ النَّافِذينَ والمُؤثِّرينَ في تَسييرِ الأُمورِ الحَيَوِيَّةِ اليَومِيَّة. للأسَفِ لِغايَةِ الآن يَبدو أن الاستِجابَةَ للمَطالِبِ ما تَزالُ مَحصورَةٌ في من هم قادِرونَ على تَعطيلِ أو شَلِّ القِطاعاتِ والمَرافِق الهامَّة. وهذا ما يُستَشَفُّ من هذا القرارِ المُلتَبِسِ الذي يَتوخَّى استِرضاءَ القُضاة، الذين لو تَمَكَّنوا فِعلاً من القِيامِ بدَورِهِم كَجِهازٍ مُستَقِلٍّ ومُوحَّد، لأدانوا مُعظَمَ المَسؤولينَ الذين تَعاقَبوا على السُّلطَةِ، ورُبَّما لكانوا زَجَّوا بعَدَدٍ كبيرٍ مِنهُم في السُّجونِ وفي طليعتِهم مُتَّخِذ هذا القرارِ ومن يَقِف خَلفَه.
كانَ لهذا القَرارِ أن يَمُرَّ أو يُمرَّرَ من دونِ نَقدٍ كما مُرِّرَت القَراراتُ الشَبيهةَ من قَبلِه، إلاَّ أن الوَضعَ الحالي لا يَسمَحُ بتَمييزِ فِئةٍ من المُوَظَّفينَ على فِئاتٍ أُخرى، لأن حاجاتِ جميعِ المُوظَّفينَ المَعيشِيَّةُ مُتشابِهَة، فالكُلُّ يُعاني شَظَفَ العَيشِ، وعاجِزٌ عن تأمين أبسَطِ المَصاريفِ الضَّروريَّةِ والمُلِحَّةِ، وفي طليعتِها المأكَلُ والمَشرَبُ وبدَلاتُ التَّزوُدِ بالتَّيَّارِ الكَهربائي والمَحروقاتِ والمياهِ وغَيرِها من الحاجاتِ اليَومِيَّة. والحقيقةُ أن أوضاعَ باقي المُوَظَّفينَ هي أسوأُ حالاً مما هي عليهِ أحوالُ القُضاةِ المَعفيونَ بِحُكمِ وَظيفَتِهم من دَفعِ بَعضِ الرُّسومِ والضَّرائب.
فَكيفَ الحالُ إذا أضَفنا إلى رواتِبِهِم ما يُصرَفُ لهم من عائداتِ صُندوقِ التَّعاضُد، هذا عَدا ما يتقاضاهُ مُعظمُهُم من بَدلاتِ ساعاتِ التَّدريسِ وتَعويضاتِ التَّمثيلِ والمُشارَكَةِ بأعمالِ اللِّجانِ والهَيئاتِ والمَجالِسِ التي يُعيَّنونَ بها أو يُنتَدَبونَ إليها، وما استَحصلوا عليهِ من قروضٍ سَكنِيَّةٍ مَفتوحَةِ السَّقف، والتي في الحَقيقَةِ لَيسَت حِكراً عليهِم إنَّما هي أيضاً في مُتناوَلِ العَديدِ من النَّافِذينَ أو المَحظِيينَ في إداراتِ الدَّولَةِ، والذين قد يَصِلُ مَجموعُ ما يَتقاضاه ُ بعضُهُم شَهرِيَّاً أو سَنَوِيَّاً من بَدلاتٍ إلى أضعافٍ مُضاعَفَةٍ لرَواتِبهِم، وذلكَ خِلافاً لما تَنُصُّ عليهِ القَوانينُ الإدارِيَّةُ المَرعِيَّةُ الإجراءِ ولمَبادِئ العَدلِ والإنصاف.
كان لهذا القرارِ أن يَمُرَّ لو كانتِ النَّظرَةُ إلى الجِهازِ القَضائيِّ وكأنه قامَ بواجِباتِهِ على أفضلِ حال، ولو لم يَكنُ التَخَبُّطُ في القَراراتِ القَضائيَّةِ حِيالَ المَسائلِ الهَامَّةِ والمَصيرِيَّةِ على ما هو عليه اليوم، ورُبَّما لم يَكنِ القُضاةُ وباقي المُوَظَّفينَ بحاجَةٍ إلى استِجداءِ حُقوقِهِم أو المَطالَبَةِ بالتَّرؤفِ بحالاتِهم المَادِّيَّةِ والمَعيشِيَّةِ لو أن الجِهازَ القَضائيَّ أظهَرَ فاعِلِيَّةً في مُكافَحَةِ كُلِّ أشكالِ الفَسادِ السِّياسيِّ والماليِّ والإداري، وبِخاصَّةٍ تلك الواقِعَةِ على الأَملاكِ العامَّةِ والهَدرِ في المالِ العامِ، والتي لولاها لكانَ لُبنانُ واللبنانيين كافَّةٍ بأحسَنِ الأحوالِ الاقتِصادِيَّةِ المالِيَّةِ والنَّقدِيَّة.
تَدعونا الموضوعِيَّةُ للقَولِ أن التَّفاوتَ غيرِ المُبرَّرِ في رَواتِبِ مُوظَّفي القِطاعِ العامِّ ومَن في حُكمِهِم هو من قَبيلِ الظُّلمِ والتَمييزِ غيرِ المُبرَّرِ لأن شَرَفُ الخِدمَةِ العامَّةِ لدى المُوظَّفِ يَتوقَّفُ على التِزامِهِ بانتِمائِهِ الوَطَنيِّ أولاً، ومن ثمَّ بقِيامِهِ بالواجِباتِ الوَظيفِيَّةِ المُناطَة، ومَدى تَقيُّدِهِ بالصَّلاحِيَّاتِ المُخوَّلةِ له لتَأدِيَةِ المَهامِ المُلقاةِ على عاتِقِهِ، وجَودَةِ الخِدَماتِ التي يُؤدِّيها. أمَّا النَّزاهَةُ والتَّجرُّدُ والحَصانةُ والتَّعفُّفُ فهي مُسلَّماتٌ ينبغي أن يَتَحلَّى بها كُلُّ موظَّفٍ، وعليه يفترضُ أن تَكونَ بَعيدَةً عن المُساوَمَاتِ المالِيَّة. أمَّا الحَلُّ فيكونُ باعتِمادِ مَعاييرَ مُجرَّدَةٍ مُوحَّدَةٍ، تَقرَّرُ على أساسِها مَداخيلُ مَعقولَةٍ تَضمَنُ العَيشَ الكَريمَ لجَميعِ المُوَظَّفينَ، بحيثُ يُحدَّدُ هامِشٌ مَعقولٌ للرَواتِبِ يحصرُ بين حَدَّين غيرِ مُتباعِدَينِ “أعلى وأدنى”، من دونِ إغفالِ مَبدأ عَدَمِ جوازِ تقاضي المُوَظَّفِ ومن في حُكمِه أكثَرَ من راتِبٍ.
إن تَحديدَ هامِشٍ بينَ حدَّينِ متقاربينِ لرَواتِبِ المُوظَّفينَ وَحدَهُ غَيرُ كافٍ لتَحقيقِ العَدالَةَ في شِقِّها المالي بينَ المُوَظَّفين، إذ لا بُدَّ من اعتِمادِ مَعاييرَ أكثَرَ تَفصيلاً عند احتِسابِ الرَّواتِبِ الخاصَّةِ بكُلِّ نَوعٍ أو فِئَةٍ من الوَظائِفِ والدَّرَجاتِ الوَظيفِيَّة، ومن أهمِّ تلكَ المَعاييرِ: مُقتَضياتُ العَيشِ الكَريمِ من مأكَلٍ ومَشرَبٍ ومَلبَسٍ (وهي واحِدةٌ لجَميعِ المُوَظَّفين على حَدٍّ سَواء بما في ذلك المُتقاعِدين منهم)، ويُضافُ إليها المُستوى العِلمِيُّ الذي يَتَمتَّع به المُوظَّفُ أو الذي تَتَطَلَّبُهُ الوَظيفَةُ المُسنَدَةُ إليه، الخُبُراتُ الفَنِّيَّة، المَهاراتُ الإبداعِيَّة، القُدُراتُ الجَسَدِيَّة، العَناءُ الفِكريُّ والجَسدَي، المَخاطِرُ الصُّحِّيَّةِ والحَياتِيَّة، طَبيعَةُ دَوامِ العَملِ (نهاريَّة أم ليليَّة)، مَحصورَةُ في أيامِ العَمَلِ أم تَشمُلَ أيَّامَ العُطلِ الرَّسمِيَّة)…الخ
ألم يحنِ الأوانُ بعد لكي يتَّعِظَ المسؤولون ويعقِلوا ويتَّقوا الله في سُلوكِيَّاتِكُم!!! ماذا لو سَادَت شَريعَةُ الغابِ في إداراتِ الدَّولةِ ومؤسَّساتِها؟ ماذا لو شًلَّتِ المَرافِقُ العامَّةُ الأساسيَّةُ في البلد، ماذا لو انتَفَضَ شُرطِيو السَّيرِ على واقِعِهم المَعيشي المَرير واعتَكَفوا عن مُزاوَلَةِ مَهامِهِم، وعلى غِرارِهِم فَعلَ العامِلونَ في مُختَلِفِ الأَجهِزَةِ الأَمنِيَّةِ والعَسكَرِيَّةِ؟ وماذا لو عُطِّلَت التَّحقيقاتُ في المَخافِرُ وكذلك تَسييرُ الدَّوريَّاتِ الأمنِيَّة، ومُراقَبَةِ الحُدودِ ومَنافِذِ العُبورِ الدَّوليةَّ؟؟؟ أيُلاحِقون كُلِّ أولئكَ بجُرمِ الخِيانَةِ أم بالتَّمَرُّدِ أم بالإخلالِ بواجِباتِ الوَظيفية وهم (المسؤولون) من خان الوَطنَ المُواطِن؟ وماذا هم فاعلون لو شَمَلتِ الإضراباتُ كافَّةَ القِطاعاتِ الإداريَّةِ والتَّعليمِيَّةِ والصِّحِيَّةِ ….الخ ولِمَن لم يعِ بعد خُطورَةَ الوَضعِ المَعيشي نقولُ وباختِصارٍ شديد: إن الحلول إمَّا تَكونَ شامِلَةً عادِلَةً ومُنصِفةً وإلاَّ فهي فِتَنٌ ولاَّدَةٌ لأَزَماتٍ مُستَعْصِيَةٍ على الحُلول.
وأخلُصُ من كُلِّ ما تَقدَّمَ للقَولِ بأن المُقارَباتِ التَّرقيعِيَّةِ، سَواءَ كانت عَشوائيَّةٌ أو مُرتَجلَةٌ وغيرِ مَحسوبَةِ النَّتائِجِ تبقى مَرفوضَةً لكونِها لا تُؤتي بحُلولٍ جَدِّيَّةٍ، إنما من شأنِ الأخذِ بها أن يُفاقِمَ المُشكِلَة، وعليهِ أتوجَّهُ إلى كُلِّ النَّقاباتِ والهَيئاتِ التَّمثيلِيَّةِ لمُختلِفِ العامِلينَ في القِطاعِ العام، من إداريينَ وفَنيين، وإختِصاصِيين، ومتقاعدي الأجهِزَةٍ العَسكَرِيَّةٍ والأمنِيَّةٍ قائلاً أن وحِّدوا صُفوفَكُم واثبِتوا على مَواقِفِكُم، واستَمِروا في إضرابِكُم، وارفُضوا كُلَّ مُحاولاتِ التَّمييزِ في ما بَينَكُم؛ ولا تَتوانوا عن اللجوءِ إلى أيٍّ من الوَسائلِ السِّلمِيَّةِ المَشروعَة، وبالتَّنسيقِ مع مُختلِفِ النِّقاباتِ والفَعالِيَّات، ولا تتراجَعوا أو تَنكفِئوا إلاَّ وقد تَحقِّقت مَطالِبُكُم المُحِقَّةِ، بما في ذلك احتِسابُ الرَّواتِبِ وَفقَ مُقوِّماتٍ مُتَجَرِّدَةٍ، مُتَّسِقَةٍ بسُلَّمٍ مُتَحرِّكٍ للأُجورِ مَبنِيٍّ على عَوامِلَ مُتَحرِّكَةٍ مرتبطةٍ بغَلاءِ المَعيشَةِ والتَّضخُّمِ.
وأختُمُ بمُناشَدَةِ القُضاةِ الشُّرَفاءَ، بضرورةِ التَّنَبُّهِ لهذا الطُّعمِ الإغرائيِّ المَسمومِ، الذي يُقوِّضُ مِصداقِيَّتَهُم، ويَقضي على حِيادَهُم، ويَنطَوي على مَكيدَةٍ للإيقاعِ في ما بينَهُم وبينَ عُمومِ الشَّعبِ اللُّبناني، بل أدعوهُم للوُقوفِ وَقفَةً وَطنِيَّةً إنقاذِيَّةً عارِمَة، تُعزِّزُ الانتِفاضَةً الشَّعبيَّةَ، والعملِ على إنقاذِ الشَّعْبِ من جَورِ حُكَّامِه.