الذكرى الخامسة والعشرون للتحرير: إنتصار الإرادة ودرس التاريخ | بقلم د. رنا منصور

في الخامس والعشرين من آيار عام 2000، دُوّنَ فصلٌ جديدٌ في سجلّ النضال العربيّ ضد الإحتلال، حين أعلن لبنان تحرير جنوبه من قبضة الإحتلال “الإسرائيليّ” بعد 22 عاماً من الصمود. لم يكن هذا اليوم مجرّد انتصار عسكريّ، بل تأكيداً على أنّ المقاومة هي الخيار الوحيد لاسترداد الكرامة والأرض، ورسالةً إلى العالم بأنّ زمن الهيمنة الصهيونيّة على الشعوب آيلٌ إلى الزوال.
من الإحتلال إلى التحرير: مسيرة دمِ وإرادة
بدأت معاناة الجنوب اللبنانيّ مع المشروع الصهيونيّ مبكراً. فبعد احتلال فلسطين عام 1948، توسّعت القوات الصهيونيّة شمالاً، مُرتكبةً مجازرَ مروّعةً كتلك في قريتَيْ حولا (90 شهيداً) وصلحا (105 شهداء)، ونهبت الأراضي الزراعيّة مثل مزارع مرجعيون (14,211 دونماً) وكفركلا (2,007 دونمات). ورغم توقيع اتفاقيّة الهدنة عام 1949، استمرت الإعتداءات، حيث سُجِّلَ بين 1949 و1964 نحو 140 اعتداءً “إسرائيليّاً”.
لم تكن حرب 1967 سوى ذريعةٍ جديدةٍ للإحتلال. ففي 15 حزيران 1967، احتلّت “إسرائيل” 14 مزرعةً في شبعا، وسيطرت على منابع المياه الإستراتيجيّة مثل نبع وادي العسل، مُحاولةً فرض سيطرتها على الممرات الجبليّة المطلّة على الجليل والجولان. أمّا في 1968، فشنت حملات تهجيرٍ قسريّةٍ ضد ربع مليون جنوبيّ، مستخدمةً أسلحةً محرّمةً كالنابالم، ما حوّل قرىً بأكملها إلى رماد.
من عمليّة الليطانيّ إلى مجازر صبرا وشاتيلا: جراح لا تُنسى
تصاعدت الوحشيّة “الإسرائيليّة” في 1978 مع عمليّة الليطانيّ التي خلّفت مئات الشهداء وتشريداً جماعيّاً، تكرّرت فصولها الدامية في اجتياح 1982. فبحلول 30 تشرين الثاني من ذلك العام، بلغت حصيلة الضحايا 19,085 شهيداً و31,915 جريحاً، بينما دمّرت الدبابات الإسرائيليّة البيوت فوق رؤوس الأهالي، كما في جريمة سحق عائلة بكاملها تحت جنازير دبابة في البازورية.
لكنّ الذاكرة اللبنانيّة لا تمحو صور مجزرة صبرا وشاتيلا (470 شهيداً و911 مفقوداً)، التي كشفت الوجه الدمويّ للإحتلال، أو مجزرة قانا (102 شهيداً) عام 1996، حيث حوّل الجيش الإسرائيليّ ملجأً مدنيّاً إلى مقبرة جماعيّة.
عام 2000: عام الإنتصار الذي غيّر معادلات المنطقة
جاء تحرير الجنوب عام 2000 تتويجاً لمسيرة تضحيات، بدءاً من تشكيل خلايا المقاومة الأولى، وصولاً إلى عمليّاتها النوعيّة التي أرعبت العدو. لم يُنهِ التحريرُ الإحتلالَ فحسب، بل كسر أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر، وأثبت أنّ الشعوب قادرة على انتزاع حريّتها بقوة الإرادة.
واليوم، لا تزال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبنانيّ من الغجر تحت الإحتلال، ما يُذكّرنا بأنّ المعركة لم تنتهِ، وأنّ التمسك بسلاح المقاومة ضرورةٌ لحماية الأرض حتى التحرير الكامل.
درسٌ للتاريخ: المقاومة طريق النصر الوحي
لم يكن انتصار العام 2000 حدثاً محليّاً بل إلهاماً لفلسطين واليمن، ودليلاً على أنّ الهزيمة ليست قدراً. فكما قال المفكر الفرنسيّ جان بول سارتر: “الإحتلال يُهزم حين يرفض المحتلّون أن يكونوا ضحايا”.
اليوم، يواجه لبنان تحديّاتٍ داخليّةً وخارجيّةً تهدف إلى تفكيك وحدته، لكن ذكرى التحرير تُذكّرنا بأنّ المواجهة الحقيقيّة ليست بين مذاهب، بل بين مشروع مقاومةٍ يُحرّر الأرض، ومشروع تبعيّةٍ يُفرّط بالسيادة.
ختاماً، فإنّ الذكرى الخامسة والعشرون ليست مناسبةً للإحتفال فقط، بل للتذكير بأنّ التحرير الكامل ممكنٌ إذا توحّدت الإرادات، فكيف يطالب البعض المواطنين في الجنوب والبقاع بالتخلي عن نهج المقاومة وهم لا يزالون في حرب ضروس مع العدو الإسرائيليّ، حيث يقتل يوميّاً أبناءهم ويهدّم أملاكهم. ولكن كما حرّر أبناء السيدَيْن موسى الصدر وحسن نصر الله الجنوبُ ذات يوم، وستتحرّر النقاط الخمس اللبنانيّة المحتلة إضافةً إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبنانيّ من بلدة الغجر، وستتحرّر فلسطين، وستعود القدس في القريب العاجل بإذن الله، لأن دروس التاريخ تُعلّمنا: “ما أُخِذَ بالقوة، لا يُسترَدُّ إلا بالقوة”.