الساكِتُ عن الحق شَيطانٌ أخرَس | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مايزَ الله بني آدمَ عن غيرِهِم من المَخلوقاتِ بأن أَخَصَّهُم بنِعمَتي العَقل.
هذه الميزَةِ الإلهيَّةُ على الرَّغمِ من عَظمتِها إلاَّ أنَّها تُشكِّلُ حِملاً ثَقيلاً على من يتحلَّى بها، بحيثُ توجِبُ على العاقِلِ تَحمُّلَ المَسؤوليَّةِ مُنذُ صِغَرِهِ ولِحينِ مَماتِهِ ولو بمُستوياتٍ مُتفاوتَة. والمَسؤوليَّةُ هنا لا تقتَصرُ على واجِباتِ الإنسانِ تِجاهَ نَفسِهِ، إنَّما أيضاً تِجاه المُحيطِ الذي يَعيشُ فيه، سَواءَ الطَّبيعَةِ أم المُجتمَعِ وباقي الكائناتِ الحيَّة. أمَّا طَبيعةُ ومِقدارُ هذه المَسؤوليَّةِ فتَختلِفُ من إنسانٍ إلى آخرَ وَفقَ دَرَجَةِ وَعيِهِ ومُستوى إدراكِهِ ومَركَزِهِ الاجتِماعي والوظيفةِ أو الدَّورِ المُلقى على عاتِقِهِ في هذه الحَياة.
الإنسانُ المَسؤولُ هو الإنسانُ الذي يَتصرَّفُ تِجاهَ الغيرِ كما يُفترَضُ أن يَتصرَّفَ الغيرُ تِجاهَه، والذي يُقَيِّمُ أداءَهُ ويُحاسِبُ نَفسَهُ قبل أن يُحاسِبَهُ الآخرون. الإنسانُ المسؤولُ هو الذي يَتصَرَّف من وَحي القَناعَاتِ التي تتولَّدُ لديهِ بحُكمِ موقِعِهِ ونتيجَةَ التَّفكيرِ والتَّحليلِ والتَّمحيصِ في القَضايا المُثارَةِ أمامَهُ مع الأخذِ بعينِ الاعتِبارِ الظُروفَ المُحيطَةَ به داخِلَ البيئةِ التي يعيشُ فيها، وهذا ما يُسمَّى بالوَجدانِ أو الضَمير الإنسانيِّ أي القناعَةُ المُجرِّدةُ عن المُيولِ الأنانيَّة.
وبحُكمِ موقِعنا كلبنانيين، أولُ تساؤلٍ ينتابُنا في ظِلِّ الظُّروفِ الرَّاهنةِ يَتَمَحوَرُ حولَ السُّؤالِ التالي: ماذا عَسانا أن نَفعَلَ تِجاهَ كُلِّ ما حَصَلَ ويَحصَلُ بِسَبَبِ مُمارَساتِ من تعاطوا بالشَّأن العامِّ وبخاصَّةٍ من توَلَّوا وتَعاقَبوا على المناصِبِ الأساسِيَّةِ في السُّلطَةِ خلالَ العُقودِ الثَّلاثةِ الماضِيَة؟ هذا السُّؤالُ ينبغي أن يطرَحهُ على أنفُسِهم كِبارُ المَسؤولينَ الحكوميين المُناطُ بالأجهزةِ والإداراتِ التي يترأسونها تَنفيذِ القَوانين، وأخصُّ منهم المَسؤولونَ المُخوَّلونَ بصَلاحِيَةِ المُبادَءَةِ وتَحريكِ المَلفَّاتِ القضائيَّةِ والمَسلكيَّةِ في إطارِ المُساءلةِ والمُحاسبَة، وبالتَّحديدِ من يتولى منهم أحَدَ المَناصِبِ التالِيَةِ: النَّائبَ العام التَّمييزي، النَّائبَ العام المالي، مُديرَ عام قِوى الأمنِ الدَّاخلي، رئيسَ جِهازِ التَّفتيشِ القَضائي وجَميعُهُم مَسؤولٌ عن أجهِزَةٍ تُعنَى بإنفاذِ القانونِ وتَحقيقِ العَدالَة.
لم يعُد بخافٍ على أحَدٍ أن المسؤولينَ السِّياسيين وأتباعَهُم الذين أتوا بِهِم وولُّوهُم المَناصِبَ الحَسَّاسَةٍ في الدَّولَةِ عَمدوا عن قصدٍ أي بنَوايا آثِمَةٍ وإمَّا عن جهلٍ وسوءِ تَدبيرٍ أو لمآرِبَ خاصَّةٍ تَسخيرَ أو تَسهيلَ تَسخيرِ مُقدِّراتِ الوَطَنِ لخِدمَةِ مَصالِحِ كِبارِ المَسؤولين، غَيرَ آبِهينَ بانعِكاساتِ كُلِّ ذلك على الوَطَنِ والمُواطِن. وإذا كانَت ضَمائرُهُم قد عُطِّلت تحت تأثيرِ شَهَواتِهِم المالِيَّةِ والغَرائِزيَّةِ أو غَيَّبواها أو تجَاهلوها ليَسهُلَ عليهِم اقتِرافَ أفعالِهِم الجُرْمِيَّةِ الشَّنيعَةِ بِدَمٍ بارِد، وإن كان جَشَعُهُم اللَّامُتناهي الحُدودِ لا يَزالُ يَدفَعُهُم إلى ارتِكابِ المَزيدِ من الانتِهاكاتٍ الجُرمِيَّةِ والإصرارِ على التَّعَنُّتِ والسَّعي بِشَتَّى الوَسائلِ والسُّبُلِ للإستِمرارِ في إحكامِ قَبضَتِهِم على السُّلْطَةِ والتَّحكُّمِ بمَراكِزِ القَرارِ. فنحنُ بالطَّبْعِ مَدعوونَ للتَّفكيرِ والتَّساؤلِ عن الأسبابِ التي تَحولُ دونَ قِيامِ بعضِ المَسؤولينَ غيرِ السِّياسيينَ بالواجِباتِ المُلقاةِ عليهِم بحُكمِ القانون، ولنُحَرِّضَهم على القِيامِ بأدنى واجِباتِهِم حِيالَ فظاعَةِ ما حَصَلَ ويَحصَلُ وما ينتَظِرُنا من مآسٍ ومُعاناةٍ إن بَقينا صامِتينَ مُستَسلِمين خانعينَ على هذا المِنوالِ الذي نَحن عليهِ الآن.
ومما لا شَكَّ فيه أن كُلاَّ ممن تعاقَبَوا على أيٍّ من المناصِبِ التاليةِ: النَّائبِ العامِّ التَّمييزِي والنَّائبِ العام المالي ومُديرِ عام قِوى الأمن الدَّاخلي، مُتَّحِدينَ ومُنفردينَ مسؤولونَ بشَكلٍ أو بآخَرَ مَعنوياً وقانوناً عمَّا آلَ إليهِ الوَضعُ في لُبنانَ، وبأقلِّ تَقديرٍ هم مسؤولون عن سُكوتِهِم عن قَضايا الفَسادِ ووقوفَهُم مَوقِفِ المُتَفرِّجِ منها، والمَسؤولون الحاليين منهم مَسؤولونَ أيضاً عن إغفالِهِم لمَطالِبِ الشَّعبِ المُنادِي بتَحريكِ مَلفَّاتِ المُلاحَقَةِ بكُلِّ قَضِيَّةٍ من قَضايا الفسادِ المُتناولَةِ لدى الرأي العامِ، وبخاصَّةٍ تلك التي قُدِّمت وتُقدَّمُ إخباراتٍ رسميَّةٍ بشأنها، فهم بذلك يُعتَبرونَ مُتقاعِسينَ عن القِيامِ بواجِباتِهِم الأساسِيَّة. أقولُ ذلك بكُلِّ مَسؤوليَّةٍ وراحَةِ ضَميرٍ، من مِنظارِ إلمامي بالعَديدِ من النُّصوصِ الإجرائيَّةِ والموضوعِيَّةِ النَّافِذَةِ والتي وُضِعَت لمُكافَحَةِ الجَرائمِ والانتِهاكاتِ بمُختلِفِ أنماطِها وصُوَرِها وبخاصَّةٍ ما يَندرِجُ مِنها في إطارِ الفَسادِ وإساءَةِ استِغلالِ السُّلطَة، كما من تَجارُبِي طيلةَ خِدمَةِ الفعليَّةِ والميدانيَّةِ في قوى الأمن الدَّاخلي، وبخاصَّةٍ خلالَ فترةِ توليَّ رئاسةَ شعبَةِ التَّحقيقِ والتَّفتيشِ في المُديريَّةِ العامَّةِ لقوى الأمن الدَّاخلي، حيثُ قرَّرتُ الاحتِكامَ إلى صَوتِ الضَّميرِ وحُكمِ القانونِ عندما خُيِّرتُ بينها وبينَ الصَّداقاتِ والزَّمالَة، ولأنَّ الصَّالِحَ العامَّ وصالِحَ المؤسِّسةِ يَقتضيانِ ذلك، مُتجاوِزاً كُلِّ مُحاولاتِ الإساءَةِ إلي من قبلِ بعضِ المُتضررينَ والمشبوهين وتَصويري وكأني أُشَوِّهً سِمعَةَ المؤسَّسة التي أنتمي إليها.
رُبَّ سائلٍ يسألْ: وهَلْ بإمكانِ المَسؤولين المَذكورين أعلاه أن يَقوموا بمُكافَحَةِ فَسادِ مستشرٍ منذ عقود، ومَرَّ على بعضِهِ أكثرَ من عَقدٍ من الزَّمَن؟ وهلْ بمَقدورِهِم القِيامُ بما ينبغي القِيامُ به في ظِلِّ تَحكُّمِ الزُّمَرِ الحاكِمَةِ المُخضرَمَةِ في الدَّولَةِ وإمساكِها بمَفاصِلِ اتِّخاذِ القرارِ في مُختلِفِ السُّلُطات؟ أقولُ نعم وألفُ نَعم، بإمكانِهِم القِيامُ بأكثَرِ مما يَتوقَّع الكثيرون، لأنَّ عُروشَ الفَسادِ مهما صُوِّرت منيعةً وعَصِيَّةٌ على المُحاسبةِ، فهيَ مُجرَّدَ هياكِلَ خاوِيَةٍ، وأنَّها سَتتهاوى الواحِدَ تِلوَ الآخرِ فيما لو وُجِدَتِ العَزيمَةُ لدى المُولَجينَ بإنفاذِ القانون. نَعم إنَّهُم لقادِرونَ مُجتَمِعينَ ورُبَّما مُنفَرِدينَ على القِيامِ بالواجِب، نعم إنَّهُم لقادِرونَ على القِيامِ بكُلِّ ما يلزَمُ للَجْمِ مُنتَهِكي القَوانينِ والمُتعدِّينَ على حُقوقِ الدَّولَةِ أو الغَير، إنَّهم لقادِرونَ على تَحريرِ الأَملاكِ العامَّةِ الموضوعِ اليَدِ عليها بصورَةِ غيرِ شَرعِيَّة وإزالةِ التَّعدِّياتِ اللَّاحِقَةِ بها، واستِعادَةِ الأموالِ المُهرَّبَةِ للخارِجِ وتَحصيلِ الأَموالِ العامَّةِ المُتَحَصَّلِ عليها بصورَةٍ غير مَشروعَة (المَنهوبةِ)، نعم إنَّهُم لقادِرونَ على تَقويمِ الأداءِ في مُختلِفِ هيئاتِ الدَّولَةِ وإداراتِها ومؤسَّساتِها، واستِعادَةِ هَيبَتِها وسِيادَتِها وسُلطانِها، من خلالِ مُمارَسَةِ الصَّلاحيَّاتِ المُناطَةِ بالوَحداتِ والأجهِزَةِ التَّابِعَةِ لها.
إن كُلَّ ما هو مَطلوبٌ منهم يقتصِرُ على القِيامِ بواجِباتِهم، والتَّصرُّفِ وَفقَ روحِيَّةِ النُّصوصِ النَّافِذَة، وإنَّ كُلَّ ما عليهم هو التَّحلي بالجُرأةِ الكافِيَة، وتَسخيرِ الصَّلاحيَّاتِ المُناطَةِ بهم بحُكمِ القانونِ لتَحقيقِ العَدالَة، واتِّخاذِ قراراتٍ غيرِ عاديَّةٍ في ظِلِّ الظُّرُوفِ الاستِثنائيَّةِ التي تَمُرُّ بها الدَّولةُ والشَّعب. إنهم مدععونَ وقبلَ فواتِ الأوانِ لعَقدِ اجتِماعٍ تَشاوريٍّ في ما بينَهُم، يخصَّصُ للتَّباحُثِ حصراً في هذه المَسألة، واعتمادِ آليَّةٍ قانونيَّةٍ يستجيبونَ من خلالها لمَطالِبِ الشَّعْبِ المُحقَّة في ملاحقةِ المُرتَكِبين. وعليهم تَحكيمِ ضَمائرِهِم في الاستجابةَ لها والاحتِكامِ إلى القانونِ، وعَدَمِ الانصِياعِ لإملاءاتِ المسؤولين السِّياسيين، حتى من شارَكوا أو سَاهَموا في تَسمِيتِهِم في مَناصِبِهِم.
إن المطلوبَ من المَسؤولين المُنَوَّهِ عنهُم المُبادَرَةُ إلى إطلاقِ تَحقيقاتٍ مُعمَّقَةٍ في كُلِّ الانتِهاكاتِ والجَرائمِ التي ارتُكِبت مُنذُ إقرارِ اتِّفاقِ الطَّائفِ ووَضعِهِ مَوضِعَ التَّنفيذ. أقولُ ذلكَ ليس من بابِ التَّمنيَّاتِ أو المِثاليَّات أو التَّذاكي، بل لأنَّ التَّاريخَ لن يَرحَمَ كُلَّ مُتقاعِسٍ أو مُتخاذِلٍ عن القِيامِ بواجِباتِه، وإن الله لن يَغفِرَ سُكوتَهم عن كُلِّ ما جَرى ويَجري على مرأى ومسمَعٍ منهم أو مما يصِلُهم بالتَّواتُر، وعليهم أن يعوا أن الله لا محالَ سيستجيبُ يوما لتَضَرُّعاتِ الشَّعبِ الذي عانى أسوأ أنواعِ الظُّلمِ والقَهرِ من حُكَّامِهِ المُتَغطرِسينَ المُستَبِدِّين.
أقولُ ذلك، بل أناشِدُهُم للتَّحرُّكِ قبلَ فواتِ الأوان، ولأنني أعي جيِّداً أنهم قادِرونَ على لَجْمِ أصحابِ النَّوايا الآثِمَة وكُلِّ المُرتَكبين، وليسَ هناكَ من هو قادِرٌ على مُجابَهَةِ مُحاولاتِ إحقاقِ الحَقِّ وتَحقيقِ العدالَةِ وصدِّ من يسعى إلى تَنفيذِ القانون، هذا إن صدَقتِ النَّوايا، وتوفَّرتِ الجُرأةُ اللَّازِمَة. إن اللبنانيون جَميعاً يَرفضونَ وقوفَ المَعنيينَ بتنفيذِ القانونِ وتحقيقِ العدالةِ مَوقِفَ المُتَفرِّجِ، وربَّما يرونَ في سُكوتِهِم مُساهمةٌ جرميَّةٌ. لذا أقول لهم كونوا على قدرِ مسؤوليَّاتِكُم، وبادروا فوراً باتِّخاذِ قَراراتٍ مَصيرِيَّةٍ تَليقُ بمَواقِعِكُم في ظِلِّ هذهِ المَرحَلَةِ العَصيبَةِ الحَرِجةِ التي يَمُرُّ فيها لبنان، والتي لم يَعُد بمَقدورِ الشَّعبِ اللبناني تَحمُّلَ أوزارِها.
وخيرُ ما إنهي به هذه المقالةُ القَولِ المأثور القائلُ “الساكتُ عن الحق شَيطانٌ أخرس”. وأُضيفُ أني والله لو كُنتُ أشغُلُ منصِبَ أيٍّ منكُم لاتَّخذتُ المُبادَرَةَ ولتَحَمَّلتُ المَسؤوليَّةَ أمام الله والشَّعب، فاحزموا أمركُم ولا تَخشوا لومَةَ لائم، على الأقل تَفوزونَ بشرَفِ المُحاولَة.