ازمة لبنانالاحدث

العُنفُ الناعِم: بينَ التَهَوُّرِ السياسي والغَضَبِ المُحتَقِن | بقلم د. بيار الخوري

يشهدُ لبنان مرحلةً جديدةً من التفاعُلِ بين الشارع والسلطة، حيث باتت المُواجَهةُ تأخذُ طابعًا أكثر توازُنًا بين القوى الأمنية والتحرُّكات الشعبية.

إنَّ استخدامَ الجيش اللبناني “للعُنفِ الناعم” في فتح الطرقات يَعكُسُ نهجًا تاريخيًا لهذه المؤسّسة الوطنية، التي تُحاولُ فَرضَ النظامِ بدون الانزلاِق إلى العُنفِ المُفرِط، في بلدٍ لم يَعُد يتحمّلُ إغلاقَ شارع، فكيف بإغلاق المطار، وهو الشريان الحيوي الوحيد المُتبقّي للبلاد.

في المقابل، ما حدث أخيرًا يُشيرُ إلى تحوّلٍ في أسلوبِ بيئة “المقاومة”، حيث بدأت تتعامَلُ مع المشهد اللبناني عبر أدواتِ المواجهة المدنية، بدلًا من طريقة “لن نسمح مهما كلّفَ الأمر”. هذا التحوّل، إن استمرَّ، سيكون مؤشِّرًا إيجابيًا في بلدٍ لطالما عانى من أحادية القرار تحت ذرائع شتّى.

لكن هذه التحوّلات لا يُمكِنُ فصلها عن السياقِ السياسي والطائفي الدقيق الذي يمرُّ به لبنان. ما حصلَ بالأمس لم يَكُن مجرّدَ تحرُّكٍ اعتيادي، بل تمدّدَ إلى نقاطٍ حسّاسة في غرب العاصمة والبقاع، وهي مناطق احتكاك سني-شيعي، وجاء ذلك عشية الذكرى العشرين لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، ما يُضيفُ بُعدًا زمنيًا حسّاسًا للأحداث.

وفي حين أنَّ القيادة الشيعية قد تكون شَجّعت التحرُّكَ على طريق المطار، فإنَّ تَوَسُّعَ الاحتجاجات في بعض المناطق قد يَعكُسُ غضبًا مكبوتًا داخل الطائفة الشيعية نفسها، نتيجة سلسلة الصدمات التي تلقّتها منذ اغتيال الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصرالله وما تبعه من تحوُّلٍ سريعٍ وجذري في ميزان القوى. هذه النقطة بالغة الحساسية، لأنها تكشفُ مدى تعقيد المشهد الداخلي، وتؤكّدُ ضرورةَ التأنّي في اتخاذ القرارات، خصوصًا تلك التي قد تؤدّي إلى تحريكِ الشارع بطُرُقٍ غير مَحسوبة.

باعتقادي، لم يكن “حزب الله” في واردِ تعميم التحرُّكات خارج نطاق طريق المطار، وإنَّ ما جرى جاءَ نتيجةَ الغضب الشعبي المُتراكِم أكثر منه قرارًا سياسيًا مُدَبَّرًا. فمن غير المنطقي أن يدخلَ الحزب في مواجهةٍ غير محسوبة عشية 14 شباط (فبراير)، خصوصًا أنه ليس في موقعٍ يرتاحُ فيه لفتحِ جبهاتٍ إضافية ومع “تيار المستقبل” وجمهوره بالتحديد في ظل التوازنات الحالية. من المعروف أنَّ “حزب الله” لا يتميّزُ بالخفّة ليضع نفسه في حالةِ تصادُمٍ مفتوح مع الجميع دفعةً واحدة، وهو يُدرِكُ أنَّ التوقيتَ الحسّاس للأحداث يستدعي الحَدَّ من التصعيد وليس توسيعه.

في ظلِّ هذا الظرف، لو لم تكن القوى الأمنية على قدرِ المسؤولية، لانزلقَ الوَضعُ إلى تصعيدٍ غير محسوب. ومع ذلك، فإنَّ استيعابَ الوضع لا يقع فقط على عاتق الأجهزة الأمنية، بل على القيادة السياسية التي كان يُفتَرَضُ أن تتحسَّبَ لردودِ الفعل المُحتَملة قبل اتخاذِ قرارٍ حسّاس مثل عدم السماح للطيران الإيراني بالهبوط في لبنان، خصوصًا في هذا اليوم الدقيق بالذات.

في كلِّ الدول الديموقراطية، تلعبُ الأحزابُ دورها في الشارع، فيما تقوم القوى الأمنية بدورها في حفظ النظام، وهذا جُزءٌ من التوازُن الطبيعي للحياة السياسية. لكن المحاسبة على هذا التوازُن لا تحصلُ في الشارع فقط، بل في البرلمان عبر مُساءلة الحكومة، وعبر منح الثقة أو حجبها، وفي الانتخابات. الشارع قد يكون وسيلة ضغط، لكنه لا يمكن أن يكون بديلًا من المؤسّسات الدستورية التي تضمن استمرارية الدولة وحماية الديموقراطية.

لكن نجاح هذه المعادلة يبقى مرهونًا بقبول جميع المجموعات الطائفية بمبدَإِ احتكارِ العنف من قبل الدولة، مُمثَّلةً بالقوى الأمنية والعسكرية المُخَوَّلة حفظ النظام. فالدولةُ الديموقراطية لا تستقيم إلّا إذا التزَم كلُّ الأطرافِ بقواعِدِ اللعبة، حيث يُحسَمُ التنافُس بالسياسة والانتخابات، لا عبر فَرضِ الوقائع بالقوة أو تعطيل المؤسّسات. إنَّ أيَّ خللٍ في هذا التوازن يُبقي لبنان في دائرة عدم الاستقرار، حيث يبقى النظامُ السياسي رهينةَ ميزان قوى مُتحرِّك دائمًا بدلًا من أن يكونَ مستندًا لاستقرار المؤسّسات على شرعية احتكار العنف (الناعم) للدولة وحدها.

لبنان اليوم أمامَ اختبارٍ حقيقي: هل يُمكنُ تحويل الدينامية السياسية الجديدة إلى فرصةٍ لإعادة التأسيس على أُسُسٍ أكثر توازُنًا، أم أنَّ لعبة المصالح القائمة على تهديد الاستقرار ستبقى هي السائدة؟

ينشر المقال بالتزامن مع أسواق العرب.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى