اللامركزية ما بين ضرورات الإنماء المتوازن وهواجس الفدراليَّة | بقلم العميد د. عادل مشموشي
كثُرَ النِّقاشُ حولَ مُستقبَلِ النِّظامِ السِّياسي في لبنان، على ضوءِ التَّجاذباتِ السِّياسيَّةِ التي لطالما أدَّت إلى تعطيلِ المؤسِّساتِ الدُّستوريَّةِ، كما تَسبَّبت في شَللٍ العديدِ من القِطاعاتِ الانتاجيَّة، ما أدى إلى انهيار اقتصادي ومالي وخدماتي ـ معيشي، ويعزى ذلك للافتقادِ إلى الثِّقةِ المُتبادلةِ ما بين مُختلِفِ المُكَوِّناتِ السِّياسِيَّة. وهذا ما يُفسِّرُ خروجَ بعضِ الأصواتِ المناديَةِ بمؤتمرٍ دولي لتصويبِ الحياةِ السياسيَّةِ في لبنان، ويُردُّ عليه بالتَّلميحِ بمؤتمرٍ تأسيسي يعيدُ ترتيبَ مقوماتِ النِّظامِ السياسي برمَّتِه، والبعضُ يراودهُ طيفُ الفِدرالِيَّةِ فيُلَوِّحُ به كخيارٍ رديفٍ للنِّظامِ القائم، ويروجُ له في خِطابِهِ السِّياسيِ بصورةٍ مُباشرةٍ حيناَ وغيرِ مُباشِرَة حيناً آحر، أمَّا الخِطابُ الدَّارجُ اليومَ فهو الخِطابُ المطالبُ باعتِمادِ اللامركزيَّةِ المُوسَّعَة، كسبيل الى التَّخفيفِ من حِدَّةِ الخِلافاتِ السِّياسِيَّةِ والاجتماعِيَّةِ والطَّائفِيَّةِ والمذهبيَّةِ ووضعِها في مكانها الصَّحيح، ويلقى المنادونَ بهذا الخيارِ سندَهُم في اتِّفاقِ الطَّائفِ الذي لم يَزل غير مُطبَّقٍ بكُلِّيَّتِه بما في ذلك بند اللَّامركزِيَّةِ الإدارِيَّةِ الموسَّعَة. كُلُّ تلكَ التَّوجُّهاتِ تتلطى خلف دواعي إنقاذ لبنان من كبوته، أما في الحقيقةِ فمُعظَم تلك المواقِفِ تحكُمُهُ اعتباراتٌ طائفيَّةٌ ومذهبيَّةٌ وتوجُّهاتٌ تقومُ على التَّعنصُر وتوخي مَصالِحَ فئويَّةٍ بدلاً من المَصلحَةِ الوَطنِيَّةِ العُليا.
تدفعُنا تلك الطُّروحاتُ القديمةُ المُستجدَّةُ، والتي تتلاطمُ بينَ نزعتين فدراليّةٍ وكونفدراليَّة، حيث يرى البعضُ أن في اعتمادِ اللامؤكزيَّةِ الإداريَّةِ حلاًّ للكثيرِ من المَشاكلِ السِّياسيَّة، بينما يقابلها البعضُ الآخرَ بهواجِسِ تقسيمِيَّة غيرِ مُبرَّرةٍ ولا قابلَةٍ للتَّطبيق. ما يدعونا للتَّساؤلِ والبحثِ عن مكمنِ المَصلَحَةُ اللبنانيَّةُ في كُلِّ تلك الطُّرحات؟ وهل بالإمكان التَّوفيق ما بين تحقيق اللامركزيَّةِ وكفالةُ الانماء المُتوازنِ في جميع المناطقِ اللبنانيَّة وتضمانِ المساواةِ في الحقوقِ والواجباتِ بين المواطنين؟
تدعونا كُلُّ تلك التساؤلاتٍ المَشروعَةِ إلى ضَرورَةِ البحثِ في الهيكلِ التَّنظيمي للدَّولةِ والذي يعَدُّ من المُكوِّناتِ الأساسِيَّةِ للبيئةِ الداخليَّةِ فيها، إذ بموجبِهِ يَتِمُّ توزيعُ الأدوارِ والمَسؤولِيَّاتِ والصَّلاحِيَّاتِ على مُختلِفِ المُستوياتِ التَّنظيميَّةِ والإداريَّة، وعلى هذا الأساس تَتشَكَّلُ الإداراتُ الرَّئيسيَّةُ والفَرعِيَّةُ فيها وصولا إلى المواطنِ الفردِ باعتبارِهِ صاحِبُ دورٍ مُحوري معيَّن في ظِلِّ هذا الهَيكلِ التَّنظيمي المتكامل.
في البَدء كان مُعظم الدُّولِ تَعتمدُ نظاماً مركزيَّاً مُتشدِّداً إلاَّ أنه مع التَّطبيقِ العَملي بدأت تظهرُ مساوءُ اعتماد هذا النِّظام على إطلاقِه، بحيثُ تبيَّنَ أنه يستحيلُ عمليَّاً قيامُ السُّلطةِ المركزيَّةِ ممثلةً بالوزيرِ بالتَّدخُّلَ في كل صَغيرَةٍ وكبيرَة تَحدث في كُلِّ إقليم من إقاليم الدولة.
ومما زاد في حِدَّةِ هذه المُشكلةِ هو تَطوُّرُ الحياة وتَعقُّدِها وتعدُّدِ وتنوُّعِ حاجَةِ الجُمهور للتَّواصُلِ مع الإدارَةِ الرسميَّةِ المولجَةِ برعايةِ مَصالِحِه، مما استَحالَ معه عَرضُ كُلِّ الطَّلباتِ على الوزراء المَعنيين نظرا لعدمِ تمتُّعِ الموظَّفينَ العاملينَ في الأقاليم بسُلطَةٍ القرار.
وللنِّظامِ المركزي مزاياً أساسيَّة هامَّةٌ كون اعتمادُهُ يُسهِمُ في تعزيز نفوذ السلطة المركزية، وفرض هيمنتها على مختلف الأقاليم والمَصالح التَّابِعَةِ للدَّولة، وتَحكُّمِها في زِمام الأُمور؛ كما يعتبرُ النِّظام الأقرب إلى تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد من الزاوية الإدارية، ويعزى ذلك لوحدةِ المعاييرِ المعتمُدة، لأن شُروط الانتِفاعِ بخدمَة ما وإجراءاتها تظلُّ واحدة بالنِّسبَةِ لجَميع المُتعاملين مع إدارَاتِ الدَّولة؛ كما يُعتبرُ الِّنظامُ المَركزي الأفضل بين الأنظمةِ من الناحِيَةِ الماليَّةِ لأنّه يُقلِّلُ إلى أبعد الحدود من ظاهِرَةِ تبديدِ النَّفقاتِ العامَّة، إذ يَحولُ دون الإفراطِ أو المُبالَغَة في الصَّرفِ من قبل الإداراتِ المَحلِّيَّة التي قد تميلُ إلى الإفراط في الانفاقِ ما ينعكسُ سلبا على الوعاء المالي للدولة ككل.
مقابلُ تلك المزايا التي أشرنا إليها يُعابُ على النِّظام المركزي تفرُّدُ السُّلطَةِ المركزيَّةِ (الوزراء) باتِّخاذِ القرار، كما لزومُ تدخُّلِهِم في الشَّاردةِ والواردةِ كما يُقال، كما ينطوي على حِرمانِ الأقاليمِ من المُشارَكَةِ في صُنعِ القرارِ و تَسييرِ شُّؤونِها المَحلِّيَّة ولو عبرَ مَجالِسَ مُنتخبَة. كذلك بينت التَّجربَةُ أن النِّظامَ المَركَزِي غالِباً ما يُهمِلُ الخُصوصيَِّاتِ المَحلية لعدم إلمامِ وفهمِ المراجِعِ المَركَزِيَّةِ للشُّؤونِ الخاصَّةِ بكل منطقة إقليميَّة، كذلك يتسبَّبُ في اختناقِ الإداراتِ جرَّاءَ تلبُّدَ وتكديسِ المعاملاتِ الإداريَّةِ، نتيجةَ النَمَطِيَّةِ البيروقراطيَّةِ في الأداءِ الإداري.
من الناحيةِ العمليَّةِ لا يقومُ النِّظامُ المركزية على نمطيَّةٍ إداريَّةٍ واحِدة، إنما له صورٌ مُتنوِّعةٌ، تختلفُ ما بين َحصرِ السُّلُطاتِ على نحوٍ مُطلَق، وهو ما يُعبَّرُ عنه بالتَّمركُزِ الإداري المطلق وبين تمركزٍ مرنٍ يقومُ على تَخويلِ بعض السُّلطاتِ لممثلين عن السُّلطَةِ المركزيَّةِ على مستوى الأقاليمِ وهو ما يُعبَّرُ عنه بعَدَم التَّمركُزِ الإداري.
تتركَّزُ السلطة الإداريَّةُ في المَركَزيَّةِ المُطلقَةِ في جُزئياتِها وعُمومياتها في يد الوزراء الذين يتَّخذون لهم مقراً في العاصِمَة، ويُجرَّدُ العاملون في الأقاليم من سُلطَةِ القرار، ويَتحتَّمُ عليهم الرُّجوعُ للوزير المُختَصِّ في كل شأن من شؤون الإقليم أو المَرافِق. ولاشك أنّ الأخذَ بهذا النَّمَط من التَّنظيمِ و الأُسلوبِ الإداري من شأنِهِ أن يُحدِثَ حالةَ من الاختناق نتيجة تراكُمِ المَلفاتِ بانتِظار البتِّ فيها من قبل الوزير المَعني، وما ستأخُذُه هذه العَمليَّاتُ من وقتٍ طويل، مما ينعكِسُ سلبا على طالبي الخِدمَةِ، من هنا كان لا بدَّ من تَخويلِ بعضِ المُوظَّفين في الأقاليمِ سواء التابعينَ للوزارة ذاتها العاملين في الأقاليمِ صَلاحِيَّةَ اتِّخاذِ القرارِ والبتِّ في بعضِ الأمورِ من دون الرُّجوعِ إلى السُّلطةِ المَركَزِيَّة، وقد تُعهدُ هذه الصَّلاحِيَّةُ للجنَةٍ أو هيئة تُستحدثُ لتولي إدارَةِ الإقليم.
إن تمتُّعَ اللجانِ أو بعضِ الموظَّقين العاملين في الأقاليمِ المناطقيَّةِ بصلاحيَةِ البتِ في بعضِ الأمورِ ينبغي ألاَّ يفهم على أنه من قبيل الاستِقلالِ الإداري، أو حتى أنه ينطوي على انفِصالٍ عن السُّلطَةِ المركزية، لأن عدمَ التَّركيز الإداري ما هو إلاَّ نمطٌ تعتمدُهُ السُّلطةُ المَركَزيَّةُ مع موظَّفيها العاملين في الأقاليمِ اقتِصاداً للوَقتِ والنَّفقات، ولا يترتَّبُ عليه أي اعترافٍ باستقلالٍ للوحداتِ الإداريَّة، نظراً لأن مجملَ ما يقوم به مُمثلُ الحُكومة على مستوى الأقاليم أو ما تقوم به اللجنة يتم تحت إشرافِ السُّلطَةِ المركزيَّةِ بشخصِ الوزير المُختص. وذلكَ بهدفِ تخفيفِ الأعباءِ عن السُّلطَةِ المركزيَّةِ وطالبي الخَدماتِ وتخفيفاً من البيروقراطيَّة.
وعلى الرَّغمِ من المُرونَةِ التي يتمتَّع بها نظام عدم التمركز الإداري، إلاَّ أنه لم يُحقِّقَ، على المُستوى العملي، منحاً ديمقراطياً في الإدارة، كما لم يراعِ خصوصِيَّةَ الأقاليمِ التَّابِعَةِ للدَّولة، فكان لا بدَّ من اعتِمادِ نَمطٍ أكثر ديمقراطيَّة يُراعي تلك الخصوصيَّاتِ، الأمرُ الذي أوجَبَ تبني هياكِلَ تنظيميَّةٍ أكثر مُرونَة، تُحاكي التَّطوُّرَ الذي شَهِدتهُ وتَشهدُهُ المُجتمعات، وليكون أكثر قُدرَةً وفاعِلِيَّةٍ في تنفيذِ المَهامِ المُناطةِ بالدَّولَة، وإن استوجِبَ إجراء تَغييراتٍ جزئيَّةٍ أو شاملةٍ بالهيكل التَّنظيمي، وذلك لكي تكون الهيكليَّةُ قادرةً على الاستجابةِ لمُتطلباتِ تنفيذ المهام المطلوبَة، وتوفيرِ الخدماتِ والمُنتجاتِ بحِرفيَّةٍ وجودَةٍ عاليتين، فكان الحلُّ باعتمادِ نظام اللامركزيَّة الإداريَّة، والذي يقومُ على استِحداثِ أشكالٍ قانونيَّةٍ جديدةٍ تتمتَّعُ بشخصيَّةٍ مَعنويَّةٍ واستقلالٍ إدارِي واكتفاءٍ مالي ولكن نِسبي.
لم يُعمل بهذا النِّظامِ إلَّا بعد أن استقرَّت الأمورُ السِّياسِيَّةُ في مُعظَمِ الدُّولِ، وبدأت الإدارَةُ تُمارِسُ نشاطاتٍ مُتعدِّدَة جَعلها تنوءُ بأعباءِ تُثقلُ جهازها الإداري المَركزي. هذا بالإضافَةِ إلى اختلافِ طَبيعَةِ بعض هذه النَّشاطاتِ عن طبيعةِ النشاطات الإدارِيَّةِ التَّقليديَّة. جاءَ هذا التَّطورُ ليُلبي مُتطلِّباتِ التَّغيُّراتِ الحاصِلةِ في البيئة الدَّاخليَّةِ كما في المُحيطِ الخارجي.
يخلطُ البعضُ ما بين عدم التَّمركز الإداري واللامركزية الإداريَّة، ويُعزى ذلك للَّبسِ الذي يثيرُهُ كلال النِّظامين، كون كل منهما يُعدُّ أسلوبا من أساليبِ الوَظيفة الإدارِيَّة. على الرَّغمِ من أن عدم التَّركيزَ الإداريَّ ما هو إلاَّ صورَةٌ من صُورِ النِّظامِ المَركزي، وجُلَّ ما فيه تَخويلُ مُمثلِ السُّلطَةِ المَركزيَّةِ صَلاحِيَةَ البتِّ في بعضِ الأُمورِ ذاتِ العلاقَةِ بتَسييرِ شُؤونِ القاطنين في الأقليم؛ وإن تراءى للبعضِ أن مُمثلو السُّلطَةِ المركزِيَّةِ يتمتَّعون بشَيء من الاستِقلالِيَّة، إنما هو أمرٌ عارِضٌ فرضته عواملُ فنيَّةٌ وعَمليَّةٌ نتيجَةَ صُعوبَةِ تحكُّمِ السُّلطَةِ المركزيَّةِ في كل صَغيرَةٍ و كبيرة تحدُثُ في الأقاليم. هذا بالإضافَةِ إلى أنَّهم يُمارسونَ مَهامَهُم تحت إشرافِ ورَقابَةِ الوزيرِ، الذي يَتمتَّعَ بسُلطَةٍ هَرمِيَّةٍ تِجاهَهُم تُخوِّلُه إملاءَ توجِيهاتِه عليهم، كما أن قراراتَهُم تَصدرُ باسم الدَّولة. وهذا على خِلافِ الاستقلاليَّةِ التي تَتَمتَّعُ بها الهَيئاتُ المَحلِّيَّةُ المُنتخَبَةُ باعتبارها شخصيَّاتٍ معنويَّةٍ مُستقلَّةٍ لا ترتبطُ هيكليَّاً بالسُّلطةِ المركزيَّة، وأن العاملين فيها غير مرتبطين بالسُّلَّم الإداري وقراراتُهم تصدُرُ باسمِها ولمصلحةِ شَخصيَّتها الاعتباريَّة، إلاَّ أن استقلالها غير تام إذ ترتبطُ بالسُّلطَةِ المركزيَّةِ برابِطَةٍ وِصائيَّةٍ يَحكُمُها القانون، ولا تستطيعُ السُّلطَةُ المركزيَّةَ من خلالها أن تُملي إرادتها عليها.
تقومُ فلسفةُ اللامركزية الإداريَّةِ على توزيعِ الوَظائفِ الإدارِيَّة بين الحكومَةِ المركزيَّةِ في العاصِمَةِ وبين هيئاتٍ محليَّةٍ تَتمتَّع بشخصيَّةٍ مَعنويَّةٍ شبه مُستَقِلَّة، بحيث تَحتفظُ السُّلطةُ المَركزيَّةُ لنَفسِها حَصريّاً بالإمساكِ بالجَوانبِ السِّياسِيَّة كما بحَصريَّةِ التَّمثيلِ الخارجي، تتولى أجهِزَتهاُ المركزيَّةُ القِيامَ بالمَهام الوَطنِيَّةِ الأساسِيَّةِ كشُؤون الدِّفاعِ والأمن والخارِجِيَّة ورَسمِ السِّياسَةِ العامَّة في مُختلفِ المَجالاتِ الاقتِصاديَّةِ والتربويَّةِ والتَّعليم العالي وغيرِها، في حين تتولى الهيئاتُ المحليَّةُ المُنتخبَةُ باقي المهامِ وبخاصَّةٍ أعمالَ تدبيرَ شؤونِ أقاليمِها والمواطنينِ القاطنين فيها بإداراتٍ وأجهزةٍ مَحليَّةٍ تابِعَةٍ لها. مما يُحقِّقُ مَبدأ الديمقراطِيَّةِ الإدارِيَّةِ ويُعزِّزُ العلاقةَ بين تلك الإداراتِ وبين المَقيمين ضمن نِطاقِها الجُغرافي.
تنطوي اللامركزيَّةِ على ميزاتٍ هامَّة، تتمثَّلُ في قُدرتِها على إدارَةِ شُؤونِ الأقاليمِ على نحوٍ يَتلاءمُ مع خُصوصِيَّةِ كُلٍّ منها وثقافةِ قاطِنيه، كما أنها تُسهِّلُ عمليَّةَ توفيرِ الخدماتِ الحكوميَّةِ على سُكَّانِ الأقاليمِ في ظِلِّ اتِّساعِ وتعقيدِ المهامِ المُناطةِ بالسُّلطاتِ المركزيَّة وخاصَّةً في مجالِ تقديمِ الخدماتِ الضَّروريَّةِ والاستثمارِ في مصادرِ الطَّاقةِ المُتجدِّدةِ كتوليدِ الكهرباء من الطَّاقةِ الشَّمسيَّةِ أو باستخدام الطاقاتِ الهيدرومائيَّة أو طاقةِ الرِّياحِ، وتوفيرِ خدماتِ الاتصالاتِ والحِفاظِ على الثَّرواتِ الطَّبيعيَّةِ والحدِّ من التَّلوثِ البيئي بمعالجةِ مياه الصرف الصحي والمخلفاتِ المنزليَّةِ والطُّبيَّةِ ومعالجةِ النفاياتِ الصَّلبة وإعادةِ تدويرِ ما يَصلحُ لذالك …الخ، كما أنها تُسَهِّلُ عَملِيَّةَ مُواجَهَةِ التَّحدياتِ على مُستوى الإقليمِ المعني بها، وإدارتِها بفعالِيَّةٍ نتيجةَ القُدرَةِ العاليةِ على التَّدخُّلِ بفعالبَّةٍ أكبر، وسرعةٍ في اتِّخاذِ القراراتِ الملائمة في معرَضِ مواجَهَةِ الأمور الطارئة، كذلك تخفِّفُ اللامركزيَّةُ من أعباءِ القيادةِ الإداريَّةِ وتحِدُّ من تسلُّطِ المسؤولين في السلطةِ المركزيَّة، وبالوقتِ عينِه تُتيحُ للمسؤولين في الدَّولةِ التَّفرُّعَ للمهام الوطنيَّةِ الأساسيَّة، هذا بالإضافةِ إلى أسهامها في تنميَةِ وتوسيع خُبراتِ القِياداتِ الإدارِيَّةِ المَحليَّة، وتهيئتِهم لتولي مهامٍ على مُستوى السُّلطةِ المركزيَّةِ مُستقبلا.
مقابل تلك المزايات تنطوي اللامركزيَّةُ على الكثيرِ من المخاطرِ إن لم يحسنَ فهمها ومقاربتُها، بحيث قد تؤدي إلى عدم استقرارٍ سياسي وأمني، وقد تتسبَّبُ بانهيارٍ اقتِصادي نتيجةِ الإسرافِ في تبديدِ الوارِدات إن لم يُصَر إلى ترشيدِ صرفِها، وقد تؤدي إلى تفاوتٍ مناطِقي في المُستوى المعيشي ونوعيَّةِ الخَدماتِ المتوفِّرةِ بين إقليم وآخر، وأخطرُ ما في اللامركزيَّةِ الإداريَّةِ قيامُها على تَقسيماتٍ غيرِ مدروسَةٍ وغير متوازِنة تَتسبَّبُ في قيامِ زعاماتٍ مَحلِّيَّةٍ من ذوي النُّفوذِ السِّياسي أو المالي ما يؤدِّي إلى نوعٍ من التَّسلُّطِ المَحلِّي والمحاباةِ أوتغليبِ الاعتباراتِ الشَّخصيَّةِ والسياسيَّةِ الضَّيقةِ على مصالِحِ الإقليم أسوأ مما هو عليه الحالُ في الأنظِمةِ المركزيَّةِ الفاسِدة؛ وقد يتسبَّبُ سوء التَّقسيمِ في قيامِ أقاليمَ عِرقيَّةِ أو طائفيَّةٍ أو مذهبيَّةٍ ما يجعلُ منها كياناتٍ عنصُريَّةٍ مُتناحِرَةٍ في ما بينها، تتسبَّبُ بين الفينةِ والأخرى بفتن داخليَّةٍ مُدمِّرةٍ للمُجتمع وللدَّولةِ ككيانٍ سياسي جامع؛ وقد يتذمَّر المواطنون من وطأةِ أعباءِ التكاليفِ الماليَّةِ ما بين ضَرائبَ ورُسومٍ تُجبى لِصالِحِ السُّلطةِ المَركَزِيَّةِ وأُخرى لِصالِحِ الهيئاتِ المَحلِّيَّة، ما يدفَعُهم إلى الانتِفاضِ في وَجهِ أيٍّ من السُّلطتين المَركزِيَّةِ أو المَحليَّةِ أو كِليهِما، وقد تصلُ المُطالباتُ إلى حَدِّ المُناداةِ بالفدراليَّةِ أو الآنفصالِ عن الدَّولَةِ الأم.
غالباً ما يَعتَمِدُ نِظامُ اللامركزيَّةِ في الدُّولِ ذاتِ الإقليمِ الشَّاسِعِ، بحيث يُصارُ إلى تقسيمِهِ إلى مناطقَ إداريَّةٍ لتسهيلِ إدارَتِها، إلاَّ أن اللامركزيَّةَ تنطوي على مَخاطِرَ تَفتيتيَّةٍ إذ تُشَجِّعُ على الفِدرالِيَّةِ ورُبَّما على الاستِقلالِ التامِّ عن الدَّولَة الأم، خاصَّةً في الدُّولِ تضُمُّ مُكوناتٍ لشريَّةٍ مُختلِفَةٍ بانتِمائها العِرقي أو الديني أو اللغوي، وهذا ما يَدفَعُنا للقولِ بأن أي تنظيم إداري ناجِحٍ لدولة ما، لابد أن يكونَ نِظاماً مُتكاملاً متوازنا يَتضمَّنُ قَدراً من المَركَزِيَّةِ وقِسطاً من عَدَمِ التَّمركُزِ الإداري ولامركزيَّةِ إداريَّةٍ ـ ماليَّة .
بناءً لتلك الاعتِباراتِ المُنوَّهِ عنها يُفضَّل أن تَتِمَّ عَمليَّةُ الانتِقالِ من النِّظامِ المَركزي إلى النِّظامِ اللامركزي على نحوٍ مُتَدرِّج ومَدروس وبسلاسة، وهذا يتطلَّبُ إعدادَ كوادِرَ بشَرِيَّة تَتمتَّعُ بمؤهلاتٍ إدارِيَّةٍ ومالِيَّةٍ عاليَةٍ قادِرَةٍ على إدارة شؤون الإقليم وإحداث القَدرِ الكافي من التَّغيير المُرتجى، كما أن تبني النِّظام اللامركزي ينبغي أن يكون فِعليَّاً لا انتِقائيَّاً بحيث يشمُلُ مُختلِفَ أقاليم الدَّولَة، كذلك ينبغي نشرُ التَّوعِيَةِ الكافيةِ بمزايا اللامركزيَّةِ ومخاطِرها في عمومِ أرجاء الدولة، والعملِ على إرساء روح المواطنة من خلال نشر ثقافة سياسيَّةٍ وتنظيميَّة، تقوم على احترام الإنسان كفرد مؤثِّرٍ في المُجتمَعِ بتفاعُلِهِ ومشارَكتِهِ في الحياةِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والاجتِماعِيَّة …الخ ، للحؤولِ دون مُعارَضَةِ هذا التَّوجُّه، وحِرصاً على الاستِقرارِ الأمني في المُجتَمَع، وحِفاظاً على وِحدَةِ الدَّولة ولَجماً للتَّطلعاتِ الانفِصالِيَّة.
أما على المًستوى اللبناني، فقد تكونُ المُناداةُ بالفدراليَّةِ عاملاً تنمويَّاً إصلاحِيَّا، وبالتالي تنطوي على مطلب حقٍّ، ولكن حذارِ ثمَّ حَذاري أن يكون هذا المَطلبُ ينطوي على دوافِعَ تقسيميَّة، تقضي على كُلِّ مُقوِّماتِ الدَّولَةِ القائمة، ولا تُسفِرُ عن كياناتٍ قابلةٍ للحياة، وهذا ما يوجِبُ دراستهُ بعمقِ وتأن.