الميثاقية بين المواطنة والريع السياسي: جدلية بناء الدولة وتجاوز الهيمنة الطائفية | بقلم د. بيار الخوري
الميثاقية في لبنان تمثل انعكاساً لتوازنات تاريخية هدفت إلى الحفاظ على التنوّع الطائفي وضمان السلم الأهلي، لكنها تحوّلت مع مرور الزمن إلى أداة لاحتكار السلطة وتعزيز الهيمنة الطائفية. هذه المنظومة التي وُلدت لحماية الشراكة الوطنية أصبحت في ممارستها العملية سبباً رئيسياً لتعطيل الدولة وإضعاف مؤسّساتها. فبدلاً من أن تكون الميثاقية إطاراً لضمان تمثيل عادل للطوائف، تحوّلت إلى وسيلة تكرّس مصالح القوى السياسية المهيمنة التي تدّعي تمثيل هذه الطوائف.
المشكلة تكمن في أن مفهوم الميثاقية كما يُمارَس في لبنان لا يرتبط بالكفاءة أو الصالح العام، بل بشرعية التمثيل التي تحتكرها النخب الطائفية. هذه النخب تستخدم الميثاقية لتبرير السيطرة على مؤسسات الدولة وتحويلها إلى أدوات لإعادة إنتاج شبكات الريع السياسي. يصبح أي منصب عام بمثابة “غنيمة”، لا تُوزَّع بناءً على معايير الكفاءة، بل بناءً على الولاء الطائفي أو السياسي. والنتيجة هي تراجع الأداء المؤسسي للدولة، واستمرار الشلل في القطاعات الحيوية، وانعدام الثقة بين المواطنين والدولة.
هذا التشابك بين الطائفية كمنظومة سياسية والاقتصاد السياسي اللبناني يعمّق الأزمة. المناصب العامة ليست مجرد مواقع إدارية بل أدوات توزيع للنفوذ والموارد داخل النظام. الزعامات الطائفية، التي تمثل الطوائف، تستخدم هذه المناصب لتعزيز مصالحها الخاصة عبر شبكات المحسوبية والفساد. هذه الممارسات لا تُضعف فقط فعالية الدولة، بل تؤدي أيضاً إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، حيث تتركز الثروة والسلطة في أيدي القلّة، بينما تبقى الأغلبية تعاني من الفقر والتهميش.
ما يزيد من وضوح الأزمة هو الانهيار الاقتصادي والمالي الكبير الذي شهده لبنان في عام 2019، والذي يعدّ أبرز تجلّيات الفشل المتراكم لمنظومة الريع الطائفي. هذا الانهيار لم يكن مجرّد أزمة مالية، بل كان انهياراً شاملاً لمنظومة تقوم على استنزاف موارد الدولة لصالح النخب السياسية والطائفية. تفكّك الاقتصاد اللبناني جاء كنتيجة حتمية لسياسات اعتمدت على الديون، والفساد، والمحسوبية، بينما تم إهمال القطاعات الإنتاجية الحيوية. هذه الأزمة أكّدت بوضوح التداعيات الكارثية لتحالف الطائفية مع الريع الاقتصادي، وكيف أن استمراره يشكل خطراً وجودياً على الدولة والمجتمع.
إعادة بناء الدولة اللبنانية تتطلب مواجهة هذه البنية العميقة التي تربط بين الطائفية واقتصاد الريع. الميثاقية يجب أن تُعاد صياغتها بحيث تصبح أداة لضمان العدالة الاجتماعية والشراكة الحقيقية، وليس لتوزيع الغنائم بين النخب الحاكمة. هذا يتطلب تغييرات جوهرية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
على المستوى السياسي، لا بدّ من كسر احتكار النخب الطائفية للتمثيل السياسي عبر تعزيز المؤسسات الديمقراطية التي تُمكّن المواطنين من اختيار ممثليهم بناءً على الكفاءة والرؤية الوطنية. يجب أن تنتقل شرعية التمثيل من الولاء الطائفي إلى مواطنة أبناء الطوائف، ما يعزز مشاركة الجميع في صياغة مستقبل الدولة بعيداً من الحسابات الطائفية الضيقة.
على المستوى الاقتصادي، يجب تفكيك شبكات الريع التي تغذي النخب السياسية عبر إصلاح جذري لإدارة الموارد العامة ومحاربة الفساد. تحقيق الشفافية والمساءلة في مؤسسات الدولة ضروري لضمان توزيع عادل للموارد والخدمات بعيداً من الاستغلال السياسي. هذا يتطلب آليات مستقلة لإدارة التعيينات في القطاع العام، تضمن الكفاءة مع الحفاظ على التوازن الوطني، دون التضحية بالمصلحة العامة.
في هذا السياق، يبرز خطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية، العماد جوزاف عون، كمؤشر على إمكانية إعادة بناء مشروع وطني جامع. الخطاب وضع المواطنة كركيزة أساسية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بعيداً من الاصطفافات الطائفية. الدعوة إلى مشروع وطني تتجاوز فيه الدولة منطق المحاصصة والطائفية، وتتبنّى المواطنة كقيمة جامعة، هي خطوة أساسية لتخطي هذه الأزمة البنيوية.
إعادة تعريف الميثاقية وتحريرها من قبضة القوى السياسية المهيمنة يمكن أن يكونا بداية لبناء دولة تقوم على الشراكة الطائفية الحقيقية والعدالة الاجتماعية. التحوّل المطلوب ليس مجرد إصلاح إداري، بل هو عملية تغيير جذري في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الطوائف والنظام السياسي. النجاح في هذا التحدي يتطلب إرادة سياسية شجاعة ورؤية وطنية قادرة على وضع المصلحة العامة فوق كل الاعتبارات الأخرى، مع إعادة توجيه مؤسسات الدولة لخدمة جميع المواطنين، بعيداً من منطق التقاسم والمحاصصة. هذا المسار صعب وشاق، لكنه الوحيد القادر على الاستجابة للفرصة النادرة لبناء لبنان كدولة عادلة ومستدامة تخدم شعبها بكل طوائفه وقواه الاجتماعية.