تَشييعُ المِحوَرِ في تَشييعِ صانِعِ هَيبَتِهِ | بقلم د. بيار الخوري

مثَّلَ اغتيالُ السيد حسن نصرالله زلزالًا مُدَوِّيًا هَزَّ أُسُسَ “مِحوَرِ المقاومة” بأكمله، فلم تَكُن العمليةُ مُجرَّدَ ضربةٍ عسكرية كبرى، بل إعلانًا عن نهايةِ مرحلةٍ وصياغةِ واقعٍ جديدٍ للصراعِ في المنطقة. لسنواتٍ طويلة، مثّلَ نصرالله أكثر من مجرّدِ قائدٍ سياسي أو عسكري، فقد كانَ المزاجَ العام للمِحوَر، صوته وخطابه وهيبته، والضامن ل”وحدة الساحات” التي طالما تغنّت بها طهران وحلفاؤها.
لم يَكُن نصرالله فقط يُواجِهُ إسرائيل، بل كانَ يَرسُمُ مُعادلةً إقليمية جعلت من بيروت، وليس طهران، مَركَزَ ثقلِ المِحوَر في كثيرٍ من المحطّات. إنَّ اغتياله بالطريقة التي تمّت بها، وبما يحمله من دلالاتٍ رمزية واستراتيجية، لم يؤدِ فقط إلى فقدانِ الحزب قيادته، بل كشفَ عن ازمةِ البُنيةِ القيادية للمحور بأكمله.
خسارةُ نصرالله لم تكن فقط ل”حزب الله”، بل امتدّت إلى كافة الفصائل المُتحالفة مع إيران، من العراق إلى سوريا وفلسطين واليمن. إنَّ فقدانَ شخصيةٍ قادرةٍ على تَعبئةِ الجمهور وخَلقِ سياقٍ مُتكامِلٍ ومُتماسِكٍ حولَ الصراع، جَعَلَ المِحوَرَ يبدو مُفَكَّكًا أمامَ الضربات المُتتالية.
إيران، التي كانت تُمسِكُ بخيوطِ هذا التحالف الإقليمي، وجدت نفسها فجأةً أمامَ واقعٍ جديد؛ لم يَعُد بإمكانها الاعتمادَ على خطابٍ تهديديٍّ مُزلزِلٍ أو خطابٍ دعائيٍّ قادرٍ على حَشدِ التأييد كما كان يفعل نصرالله. في المقابل، فإنَّ إسرائيل، ومن خلفها واشنطن، نجحت في توجيهِ ضربةٍ لم تَكُن عسكريةً فحسب، بل نفسيّة واستراتيجية، حيث لم يكن الردُّ الإيراني، رُغمَ كلِّ التهديدات السابقة، على مستوى الحدث، ما عزّزَ من صورةِ المحور كقوّةٍ كاريكاتوربة بعد نصرالله فقدت القدرة على الرَدعِ الحقيقي.
مع تَفكُّكِ “وحدة الساحات”، بدا أنَّ المشروعَ الذي سعت إيران إلى ترسيخه يُواجِهُ مأزقًا غير مسبوق. لم تَعُد الفصائل المُختلفة تتحرّك باندفاعٍ مُوَحَّد، بل باتَ لكلٍّ منها حساباته الخاصة التي تعكسُ التحدّيات الداخلية والضغوط الإقليمية، فيما تحرّكت واشنطن لتكثيف الضغوط، مُدرِكةً أنَّ اللحظة الراهنة قد تكونُ الأنسب لإعادة رسم التوازُنات في المنطقة. في الوقت نفسه، شَكّلَ تشييعُ السيّدين نصرالله وهاشم صفي الدين مَشهدًا يَحمُلُ أكثر من مجرّدِ دلالاتِ وداع، فقد بدا كأنه إعلانٌ غير مُباشِر عن تشييع “محور المقاومة”، وتشييع القيادة القادرة على ضبطِ إيقاعِ المواجهة وتوجيه الصراع وفقَ استراتيجيةٍ مُوَحَّدة.
المحوَرُ بَعدَ نصرالله ليس محورًا، وهذه الحقيقة باتت تتضح يومًا بعد يوم مع تراكُم الضربات الموجعة، فالمسألةُ ليست فقط غيابَ قائد، بل انهيارُ نهجٍ كاملٍ كانَ يَعتمِدُ على شخصيةٍ تمتلكُ قدرةً استثنائية على إدارةِ الحربِ النفسيّة والمواجهة العسكرية في آنٍ واحد.
حتى لو حاولت إيران إعادةَ ترميمِ ما تصدَّع، فإنَّ الواقعَ يُشيرُ إلى أنَّ الحقبة التي كانت فيها بيروت مركزَ القرارِ الفعلي للمِحوَر قد انتهت، وأنَّ الاحتلالَ الإسرائيلي لم يُحقّق فقط اغتيالًا ناجحًا، بل أطلقَ مرحلةً جديدةً تختلفُ تمامًا عن كلِّ ما سبق.
لم يَعُد السؤال اليوم ما إذا كانت إيران ستواصلُ العملَ ضمن الإطار الاستراتيجي نفسه، بل كيف ستتغيَّر. فمن الواضح أنَّ إيران تُواجِهُ الآن معركةً لم تَعُد فيها صاحبةَ اليد العليا، وأنَّ الاستراتيجية الأميركية-الإسرائيلية باتت تستهدفُ ما بَعدَ هيبة إيران وما بَعدَ قدرتها على الاستمرار كقوّةٍ قادرةٍ على تغييرِ مَصائرِ الشرق الأوسط.