ثروة لبنان النفطية ضحيةَ غياب استراتيجيةِ دِفاعية وَطنية | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لطالما تناولَ السياسيون اللبنانيونَ موضوع الاستراتيجيَّةِ الدِّفاعِيَّةِ من منظار سياسي ضيقٍ تحكُمُهُ المُناكفاتُ السِّياسيَّةُ وتموضعاتُ المكوناتِ السِّياسِيَّةُ الاساسيَّةِ بين مِحورين، الاول وغلبَ على توصيفه بالآونةِ الأخيرة بمحور الفريق السِّيادي، ويُنادي بضرورةِ إقرار استراتيجيَّةِ دفاعيَّةِ باعتبارها تكرِّسُ حَصريَّةِ السِّلاحِ بأجهِزَة الدَّولةِ العَسكريَّةِ والأمنيَّةِ او على أقل تقدير بإخضاعِ سِلاحِ المُقاومَةِ لقرار السُّلطَةِ السِّياسِيَّة، ومِحورٌ آخر زاع توصيفُ فيقه الفربالمُمانع، ويتوجَّسُ انصارُ هذا الفريقِ من طرحِ الفريق الأول ويرون في ذلك مُحاولةً تدجينا للمقاومة تمهيدا للقضاء عليها، ولتعرية لبنان من قوة عَسكريَّةّ غير رَسميَّةٍ استطاعت بإمكانيَّاتها العسكريَّةِ وايديولوجيتها القتاليَّة ارساءَ قاعِدةِ توازًنِ الرُّعبِ ما بين لبنان والعدو الاسرائيلي، وبالتالي منع العدو من التَّطاولِ على السِّيادَةِ اللبنانيَّة، او التعرُّرضِ لثرواتِهِ الطبيعيَّة او تنفيذ اعمال آرهابية.
أدَّى التَّعنُّت في المواقفِ إلى تعميقِ حالةِ الانقِسام، التي تسبَّبت بتعطيلِ المؤسَّساتِ الدستوريَّةِ لمرَّاتٍ عدَّةٍ ولفتراتٍ زمنيَّةٍ طويلةٍ حينا ومتوسِّطةِ حينا آخر، ولكنها تتعارضُ مع مبدأ دستوريٍّ عريقٍ ضمان استمرار سيرِ العَملِ في المرافق العامَّة، من خلال الالتزام بروحية النُّصوصِ النافذة. والأخطرُ من ذلك أن تلك المناكفاتِ والمماحكاتِ السياسيَّةِ أوصلت البلد إلى مأزقِ صعبٍ نتيجةَ حالةِ الانهِيار التي طالت مُختلفَ القِطاعاتِ الاقتصاديَّةِ والناليَّة والنقديَّةِ والمَصرفيَّةِ والثقافيَّة …الخ. وتسبَّبت بأزَماتٍ حادَّةٍ شائكَةٍ ومُتداخِلة.
يعزو أنصارُ الفريق الاول حالةَ الانهيار التي وَصلنا إليها والأزماتِ التي نتخبَّطُ بها إلى المتهجيَّةِ التعطيليَّةِ التي اعتمدها الفريق الثاني لتحقيقِ مكاسِبَ فئويَّةٍ سِياسِيَّة وغير سياييَّة، هذا بالإضافةِ إلى خياراتِهِ الإقليميَّةِ التي جَعلت لبنان شبه مُعاقبً دوليَّا ومنسيَّا عربيَّا، أما الفريق الثاني، فيعز ما وصلنا إليه إلى السِّياساتِ الإقتصاديَّة غير المدروسَة، والتي غلَّبَت كفة القطاعاتِ الاقتصاديَّةِ الريعيَّةِ على القطاعاتِ المنتجَة، بالإضافةِ الى تفشي ظاهِرةِ الفَسادِ في الدَّولة وعلي مُختلفِ المُستويات. اما الحقيقة التي يتجاهلها الفريقين، ويتناقلها عامَّةُ الناسِ فتقولُ بأن الأداء اللامسؤول لمن توالوا على السُّلطةِ هو المُسبِّبُ الأساس لحالةِ الانهيارِ التي نشهدها والازماتِ الرَّاهنةِ، ولكل ما يعاني منه الشعب اللبناني من مآس. ولكن ثمَّة سوء أداءٍ أخطرُ من النوايا الآثمة التي تتحكم بمُعظَمِ المسؤولين، والذي يتمثَّلً في المُقارباتِ المًعتمدة او التي اعتُمدت من قبلِ غالبيَّتهم والقائمةِ على التَّسرُّعِ في تبني خياراتٍ غير مدروسة، وقراراتٍ مُرتجلةٍ ومتسرِّعة وغير مَحسوبة النتائج. وخبر مثال على ذلك مُقاربَةُ السلطة اللبنانيَّةِ لمسألةِ النِّزاع على الحدودِ البحريَّةِ مع الكيانِ الاسرائيلي المغالي بصلفه وتعجرُفه.
لا يخفى على أحد أن لبنان كدولة مُربكٌ حِيالَ هذه المَسألةِ، نتيجةً للتخبط الحاصلِ في مواقفهِ الرَّسميَّةِ غيرِ الثابتةِ والمُتناقِضَةِ مع بعضِها البغض. ولسوءِ إدارتِهِ لعَمليَّةِ التَّفاوضِ والتي كان ينبغي أن يُحضَّرَ لها جيِّدا بالتَّنسيقِ مع مُختلفِ الجهاتِ الوَطنيَّةِ والدَّوليَّةِ المَعنيَّة، كما في تسميَةِ الوفدِ المُفاوضِ ممن يُتقنون مهارة التفاوض كعلم وفن، بحيث يمتنعون عن كشفِ معظمِ ما لديهم من عناصرَ تفاوضية، وبالوقت عينه يسعون لاستكشاف ما لدى العد، كما يناورون بمطالبهم على نحو يرفعون سقفِها بدايةً وصولا إلى تحقيقِ أفضلِ الخياراتِ اي على خلافِ ما حَصلَ ويَحصلُ.
لبنان لا يُحسدُ على موقِفِهِ الملتبسِ حيالَ هذه المسألةِ الوطنيَّةِ الكبرى، والتي يتوقف عليها مصيرُ حيز كبير من ثروتهِ النفطيَّةِ كما تتعلق مباشرة بسيادَتِه على مياهه الاقليمية، ومنطقته الاقتصاديَّة الخالصة، غكيف الحال إءن والكل يعلم انما نتعاملُ مع عدوٍّ لا يُعيرُ اهتماما لكل المواثيق الدَّوليَّة، وغير موقعٍ على مُعظمِ الاتفاقياتِ الدَّولية الناظمة لأسس ترسيم الحدودِ البرية والبحريَّة بين الدُّول، ويضافُ إلى ذلك العلم بأن الرَّاعي للتفاوضِ مسكوكٌ بحياده بل مَشبوهٌ بانحيازه العلني إلى جانبِ ءلك الكيان، بل هو الداعمِ له حتى في اعتداءاته وانتهاكاته غير المُبرَّرة.
لبنان اليومَ مُهدَّدٌ بثروتِهِ النَّفطيَّةِ وعُرضةٌ للدُّخولِ بآتون حَربٍ ضروسٍ غيرِ مُتهيِّء لخوضِها، لأن العدو هو من يتحكَّمُ باختار أوانها ولم يبق سوى إعلانُ ساعَة الصِّفر لاندلاقدعِ شرارتها. وإن وَقعَت قد لا يُجمعُ المسؤولون اللبنانيونَ على صوابيةِ خوضِها، والأخطرُ من ذلك ان من بيدهم الحلُّ والربطُ أضحوا أسرى لمواقفَ شَعبويَّةِ تَخوينيَّةٍ لا يقوون على مُخالفتها تجنبا لنعتهم بالمتخاذلينِ او الخونة المتواطئين.
إن سببَ كل هذا الإرباك والتخبُّطِ بالمواقفِ يُعزى إلى أمرٍ واحدٍ: هو غيابُ الاستراتيجيَّةِ الدِّفاعيَّةِ، والتي تُعتبرُ ترجَمةُ للسياسَة الدِّفاعِبَّةِ التي تحدد السلطة السياسيَّةُ في الدولةُ خطوطها العريضة، التي ترى انه ينبغي ان يصارَ عل أساسها الدِّفاعُ عن إقليمها بشقيهِ البرِّي والبحري، وحمايَةِِ مَصالِحِها ومنعِ التَّعرُّضِ لأمنها القومي.
كم نحن بحاجة اليومَ لاستراتيَّجيَّةٍ دِّفاعيَّةٍ بسترسدُ مسؤولينا بها، ولكن للاسف هذه التي لم يتَّفقَ المسؤولون اللبنانبون على إقرارِها، ولا حتى على مُجرَّدِ التفكيرِ بالتَّباحثِ حولها.
إن الاستراتيجية الدفاعيَّةَ هي أولى الأولوياتِ بالنِّسبةِ للدُّول، باعتِبارِها المُرتكزُ الأساس الذي يَستندُ إليه المسؤولون في تقدير الموقفِ إبَّان الازماتِ والمسائل الهامَّةِ الطارئةِ التي تهمُّ الدَّولة، والتي لا تقتصرُ على الأمور العَسكريَّة بل تشملُ مًختلفَ المَسائلِ ذاتِ اليُعد القومي اي الوطني، سواء كانت سياسيَّةً سياديَّةً، اقتصادية ماليَّة، اجتماعيَّة او ثقافيَّة، وسيان تعلقت بثرواتٍ على سطحِ الارضِ ام في باطنها، او في المياه الإقليميَّة ام في الجُرفِ القاري او في المنطقةِ الاقتصاديَّة الخالِصة.
كان من المفترضِ أن تُوفرَ الاستراتيجيَّةُ الدِّفاعيَّةُ الاجوبةَ الشافيةَ للكثير من الأسئلة المطروحَة والتي قد تطرح مُستقبلا، ولجنَّبتنا كل هذا الإرباكِ، لكنه كان من المفترضِ أن تكون المُستند الاساسِ الذي يُستندُ إليه في تقدير الموقف، وعند اتَّخاذ القرارات المناسبَة، على ضوء المُستجدات. ذلك ان الاستراتيجية الدفاعيَّةُ كغيرها من الايتراتيجياتِ تُهدُّ على دراسات وتحاليل مُعمَّقة، كما تتضمن سيناريواتٍ مُعدَّةٍ مُسبقا، وتُوزَّعُ على أسايها المسؤلياتِ والمهام لمختلفِ الجهاتِ المعنيَّة، وفق الظروفِ الدولية والداخلية السائدة، والامكاناتِ المتوفرة، بعد تحديد مواضع الضَّعفِ وعناصِرِ القوَّةِ والفرصِ المتاحَة، من دون إهمال المخاطر والتهديدات المُحتملة.
ها نحن اليوم عُرضةً لدفعِ أثمانَ باهظة، لتلكؤ مسؤولينا وتخاذلهم وتناحرهم غير المبرر، الأمرُ الذي حال دون إفرارنا لاستراتيجيَّةِ دفاعيَّة مناسبة، فقط لانعدامِ الثقةِ المُتبادلةِ لدى من نصبوا أنفُسَهُم مَسؤولين عن البلد، لا بل أوصياءَ على المواطنين، بعد ان قسموهم ملل.
وأخلص للقول آن إعداد وتبني استراتيجيةٍ دفاعيَّةٍ على المُستوى الوطني، وليس من قبيلِ االتَّرفِ او الكماليَّاتِ التي يمكن الاستغناءُ عنها، لأنها واجبٌ وطنيٌّ على كُلِّ مسؤول من خيثُ موقِعِه.
الاستراتيجيَّةُ الدفاعيَّةُ هي وثيقةٌ وطنيَّةٌ جامعةٌ تلي بأهميتها الدستور، من شأن الأخذِ بها توحيد الصُّفوفِ وترشيدَ الجُهود وتسخيرِ كل الامكانياتِ المُتاحةِ في سبيل ِالزَّودِ عن الوَطن ومَصالِحِه وصونِ سيادته.
اما آن للمسؤولين ان يعوا أن الإرباك الذي يشهده لبنان اليوم، حيال مسألة استخراج الغاز من حقل كاريش، ما هو إلا أجد تبعاتِ تخاذلِ المسؤولين عن إقرار استراتيجيَّة دفاعيَّةٍ وطنيَّة تُسخَّرُ فيها إمكانياتِ الجيشِ والمقاومَةِ لخدمَةِ المصلحة الوطنيَّةِ الجامِعَة.