جدلية الفرد والسلطة في لبنان | بقلم د. مريم الترك
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
حرصت الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث على صناعة الإنسان المتخلّف، وأعدّت لهذا الغرض ترسانة وسائل مهمة لتكوين هذا القاع المظلم الفقير والكادح والجاهل وغير الكفء وغير المسؤول، إنها الخامة التي يغترف منها، ويمدّ بها استمراره، وينزرع فيها كتربة ملائمة للمحافظة على وجوده. هذا ما دعا هذه الأنظمة إلى تكوين حاضنة جدّ مهمة من الشعب الذي تعتبره في أكثر الأحيان مجرّد ” دهماء ” و” غوغاء ” و” سوقة ” لاستمرار سياسات ترقيع واستنزاف لكل الموارد سواء كانت طبيعية أو بشرية.
من هذا المنطلق قدمت هذه الدول المتخلّفة أسوأ أنموذج لشكل الدولة من خلال أداء سياسي يتراوح بين ديمقراطيات صورية باهتة لا تقوم إلاّ على محاولات تقليد نسخ مشوّهة عن الغرب، وديكتاتوريات قمعية ذات قبضة حديدية، وبعيدًا عن الخوض في أشكال السياسيات التي بُنيت على توجّه سياسي اقتصادي قسم العالم إلى شطرين بين شرق اشتراكي وغرب رأسمالي، قلتُ بعيدا عن تصوير شكل التقسيم الذي وقعنا فيه في لبنان كدولة حصلت على استقلالها الشكلي بتاريخ 22 نوفمبر 1943، فإننا شكّلنا أسوأ النماذج مع غيرنا من الدول العربية في نواحي تسيير أمورنا بدءًا من النظام السياسي وليس انتهاء بالنظام الاقتصادي.
إنّ الفرد داخل هذه الأنظمة السياسية هو آخر ترس يتم التفكير فيه لتحريك عجلة الاقتصاد أو تشكيل حسّ المواطنة أو أداء واجباته ضمن حفظ حقوقه، إنه القوة النائمة في أدراج الساسة التي تحدث الفرق وتقيم صرح الاستقلال الكامل، هذا الفرد هو ذاته الذي نجده في أنظمة سياسية أخرى -نعني بها هنا أنظمة الدول المتطوّرة – رأس حربة فاعلة في أداء سياسي واقتصادي واجتماعي ونماذج دول مثل اليابان والصين وكوريا وماليزيا حاضرة في أيّ حساب وفي كل مقاربة سياسية واقتصادية بين دولنا وبينهم بخاصة إذا أدركنا أنّ هذه الدول التي نقيس إليها حال وضعنا هي دول سبقناها إلى الاستقلال.
كل هذا وغيره يحملنا على محاولة تفكيك وضعنا في صورة تأخير ” الفرد ” عن أدائه الحقيقي في البناء ابتداء من العمل إلى التعليم إلى الممارسة السياسية الحقيقية التي لا تقصره على أداء دور الذيل والممسحة لصالح أنظمة مراوغة كاريكاتورية لا تحمل من برامج الأداء الواقعي والتنمية والتنظيم والتطوير غير الضحك على الذقون وسرقة صوت ” المواطن ” الذي تعتبره في حساباتها مجرّد مسخ يخدم وجودها الانتخابي المحدود لا أكثر، فمن عجيب التصاريف ونحن على أبواب الانتخابات النيابية اللبنانية، أن يكون الفرد اللبناني والذي يكوّن في النهاية مجموع الشعب ليس أكثر من بيدق يتم استعماله في صالح رهانات أفراد لأجل الوصول إلى سدّة الحكم التي سيعيدون من خلالها إنتاج نفس الفرد الخانع، الفاشل، غير المسؤول، وغير العملي، الفرد الرّاشي، والسارق، وغير الكفء، الفرد المتواكل الذي تسحق حقوقه أمام تحريك واجباته وفق مصالح النظام، والذي يستعمل في صراعات ونعرات طائفية محدودة، وحزبية ضيّقة، وعشائرية تغيّب روح المصلحة العليا للوطن والمواطن، ولا تؤدي قيمة الحرّية في الاختيار المنزّه عن كل ضيق.
نعود لنذكّر أنّ الفرد اللبناني الذي يشتكي طوال أيام السنة من غلاء المعيشة وأزمة السكن وأزمة الكهرباء وأزمة الاختناق المروري وأزمة النفايات وتردّي السياحة وتراجع مساحة الإنتاج على أكثر من صعيد، هو نفس الفرد الذي يهلّل ويطبّل لذات السياسات ونفس الوجوه وذات الأحزاب، ويزيد فوق تهليله وتطبيله بأن يتحوّل إلى خادم لها ومدافع شرس عنها ومنظّر عميق لسياسات فشلها المتلاحقة، إنه نفس الموطن الذي يأكل من حصرم أعوامها الأربعة مرارة غرسه، وهو المواطن الذي شكّلت بناه ووعيه هذه الأنظمة التي تخدم به مصالحها واستمرارها على سدّة الحكم عبر أدوات فعلها المؤثر والعميق التي استخدمت بصورة مناقضة والتي نعني بها هنا الإعلام كسلطة رابعة حادت عن حقيقة فعلها لصالح الوطن وقيمة انحيازها للشعب لتكون أداة التدمير الأولى في أيدي الساسة، ومن خلال هذه الوسيلة المنوّمة والمدلّسة والمزّيفة تسلّلت هذه الأنظمة إلى القطاعات الأكثر حساسية في حياة الناس كالتعليم والعدالة والصحة وغيرها.
ليتحوّل الفرد اللبناني بصفة خاصة والفرد العربي بصفة عامة إلى مجرّد رقم ميّت يخدم مصلحة استمرارها.