ازمة لبنانالاحدث

جولة في عقول “المتشائلين” | بقلم هنري زغيب

بين كثير ما يأْتيني إِلى بريديَ الإِلكتروني، وصلَتْني السبت الماضي صفحةٌ طريفةٌ مُعبِّرة فيها تسعةُ رسومٍ صغيرة لكوب من الماء في تسع حالات، سأَستعرضها تفصيلًا ثم أُعلِّق عليها.
في الرسم الأَول: الماء يملأُ نصفَ الكوب. يراه المتفائل نصف ملآن. في الرسم الثاني: الرسم ذاته، يراه المتشائم نصفَ فارغ. في الرسم الثالث يراه الواقعيُّ كوبَ ماءٍ ليس إِلَّا. في الرسم الرابع: يراه عالمُ الفيزياء قسمين: الأَسفل مادة سائلة والأَعلى هواء. في الرسم الخامس: يرى الفنان السوريالي الماءَ عموديًا والفراغَ حدَّه عموديًّا. في الرسم السادس: يراه عالمُ النسبة ممتلئًا بنسبة 50% وفارغًا بنسبة 50 بالمئة. في الرسم السابع يرى المثاليُّ الماءَ في أَعلى الكوب والفراغَ في القسم الأَسفل. في الرسم الثامن يرى المشكِّكُ أَن ما في الكوب قد لا يكون ماءً. في الرسم التاسع الأَخير يستعمل الرسام الكوبَ ليغمسَ فيه ريشته كي يغسلَ بمحلولٍ سائلٍ ما عليها من أَلوان.
هذا التعداد أعلاه لملاحظة أن المشهد ذاته، ولو ثابتًا، يتغير بتغيُّر النظرة إليه، أو بتفسيره الشخصي وفق طبيعة من ينظر إليه، بين متفائل ومتشائم ومتشائل (أي لا متفائل ولا متشائم او كليهما معًا). وفي هذا ما يبدِّل مفاهيمَ عدَّة في الحياة، يراها ناسٌ من نظرتهم إِليها، ويراها آخرون مختلفة أَو معكوسة أَو مضادة، وفق مزاجهم أَو تموضعهم أَو انتماءاتهم أَو معتقداتهم.
أَقرب مثالٍ على ذلك: عرقلةُ وضْع كتاب مدرسي لبناني للتاريخ، بسبب رؤْية البعض إِلى أَحداثٍ جرت في لبنان، يراها البعضُ الآخر غيرَ ما يرى أُولئك إِلى ظروفها وأَبطالها وأَعلامها، فيتوقَّف العمل ويبقى تلامذتُنا من دون كتاب تاريخ موحَّد.
وما أَقوله عن تأْليفِ كتابٍ لبناني للتاريخ، أَقولُه عن نظرة مواطنينَ إِلى لبنان، تختلف كُلِّيًّا عن نظرة مواطنين آخرين يرون إِلى لبنان من زاوية أُخرى تمامًا. ويتشنَّج الوضع، ويَتَمَتْرَسُ أَنصار هذه النظرة ضد أَنصار تلك، ويتوسَّع الاختلاف إِلى خلاف، ويتسيَّس الموضوع، ويزيد السياسيون في كل فريق من صبِّ الزيت على النار، وتنقسم البلاد عميانيًّا بين أَنصار هؤُلاء وأَنصار أُولئك، ويكون ما يكون، وقد يؤَدي هذا الــ”ما يكون” إِلى خلافات سياسية أَو أَزمات وحتى إِلى حروب.
هذا الأَمر يؤَدِّي إِلى رؤْية المشهد ذاته من الرصيف الأَيمن ويختلف عند رؤْيته من الرصيف الأَيسر. وبين يمين ويسار، على المستوى الوطني، يختلف المشهد، وتختلف الرؤْية، ويختلف الموقف، وتتصاعد التنظيرات، ويتصعَّد الوضع سياسيًّا وربما أَمنيًّا.
سردتُ كلَّ هذا الأَعلاه لأَقول إِن كلَّ رأْيٍ غيرِ مبنيٍّ على وقائعَ ثابتة ومصادرَ أَكيدة، يبقى تنظيرًا مجَّانيًّا لا ينفع أَصحابه ولا يُقْنع معارضيه. وأَختم بأَن هذا الواقع، على المستوى الوطني، يجعلُني أُؤْمن أَكثر بأَن رؤْيتي لبنانَ الوطنَ الثابتَ الدائمَ بتراثه وعلاماته وأَعلامه، هو الأَبقى والأَرقى والأَنقى من جميع المتغيرات الآنية السياسية العابرة التي تتقلَّب وفْق المواقف، وتتغيَّر وفْق الأَمزجة، وتتصعَّد حمأَةً بين أَهل السلطة  تستجرُّ حمأَة بين مناصريهم وأَزلامهم، ويكون ما كان غيرَ مرةٍ في لبنان السياسي.
لذا أَنا باقٍ في رؤيتي لبنانَ الوطن الحضاري الثقافي الفكري الإِبداعي، مشيحًا عن يوميات لبنان السياسية لأَنها حرباوية التلوُّن مع متغيرات في المواقف والمصالح والإِملاءَات تحتاج معالجةً لتقريب الرُؤَى، كي تظلَّ الصورةُ البهيةُ الثابتةُ للبنانَ الوطن، شعبًا خلَّاقًا وأَرضًا مباركةً، ومَهَاجرَ في العالَم تؤَدِّي وفاءَها لحيثُما هاجرَت، وتؤَدي ديمومةَ ولائها للبنان الحقيقة الذي هو الوطن اللبناني المبدع على أَرضه وفي العالم.

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى