جيش حماية المنظومة! | كتب أيمن فاضل
يعد الجيش أداة لحماية مصالح الطبقة الحاكمة في معظم الدول، وأداة قمع طبقية، ولتنفيذ ردود أفعال بوجه أي تهديد لهذه الطبقة، في لبنان، الجيش والقوى الأمنية ضعيفة مشتتة وغير فاعلة، ومن هو منظم وقادر على الحلول مكان هذا الدور هو حزب الله.
في خطابه ألاخير، أفصح السيّد حسن نصر الله عن تقديمه لكامل أوراق اعتماده كجيش لحماية المنظومة الحاكمة، بكامل ارتباطاتها من واشنطن إلى دول أوروبا ودول الخليج. حزبه، بطبيعته الطائفية، لا يمكن أن يعيش إلا في ظل منظومة طائفية، هذه الحقيقة التي لم تنجح القوى اليسارية والتحررية والقومية في فهمها، بسبب الصراع العسكري الذي خاضه حزب الله خلال أكثر من عقدين مع العدو الاسرائيلي، مع العلم أن منطلقات الصراع الذي خاضته هذه الأحزاب والذي خاضه حزب الله مختلفة، إلا أن فكرة “البندقية بوجه العدو” أعمت هذه القوى عن حقيقة الحزب الأيديولوجية، التي لن تكون تحررية بأي شكل من الأشكال.
إذاً، وبوضوح، انحدر حزب الله خلال السنوات الخمس الماضية، من وهم كونه حركة تحرر (مهما شَبَكَ من علاقات مع قوى تحررية في الخارج رأت ما رأى به اليسار اللبناني) مارس حزب الله في هذا الإطار سياسة مرنة وبراغماتية مع هذه القوى، وهي احتضنته إعلامياً بالحد الأدنى لأنه يواجه “المشروع الأخطر للاستعمار في الشرق الاوسط”.
خطاب السيد الاخير كان خطاب الفصل بالنسبة لفهمه لموقعه ولفهمنا له ولطبيعته وعلاقاته ورؤيته لمستقبله، التي تختلف عن رؤيتنا لوطن حرٍ وديمقراطي، مختلف بالشكل والبنى عن دولة العدو العنصرية الطائفية، وطنٍ مقاوم اقتصادياً وسياسياً وبنيوياً، لا مزرعة للطوائف تبرر وجود كيانٍ طائفي لصيق، مستعدة للتفاهم معه على قاعدة أن لكل فيدرالية في هذه المزرعة الحق بنسج العلاقات السياسية مع ما يشبهها في الإقليم والعالم.
طبعاً، بالشعار العام، أي المقاومة، هذا الواقع يتناقض مع بقاء “حركة مقاومة” فهكذا حركة لا مصلحة لها بحماية هكذا منظومة، ما أغفلناه طيلة عقدين، هو كون هذه “الحركة” ليست تحررية، وهي تسعى لحجز مقعدٍ لها في المنظومة القائمة بتبعياتها المختلفة، ما يبرر لها تبعيتها في المقابل ويعطيها الشرعية من هذا المنطلق.
بمعنى أن حزب الله لا يرى نفسه خارج المنظومة بتبعياتها المختلفة، هو خصم على تفاصيل سياسية معينة مع قوى في الداخل، لكنه ليس عدواً لها، بل يمكن له أن يجد أرضية مشتركة واضحة معها عند تلاقي المصالح، وعند تباعدها يمكن رفع السقف حتى اتهامها بالعمالة للولايات المتحدة أو أي دولة غربية أو خليجية، هذا ما حدث ويحدث مع مختلف رعاة الطوائف، ليس بدءا من الاتفاق الرباعي، وليس انتهاء بحماية الحكومة التي كان يرأسها ممثل المصالح السعودية أو الفرنسية أو الأميركية…
في خطابه المشار اليه، صنّف السيد نصر الله الانتفاضة الشعبية بلا أي مواربة بأنها “الفوضى التي أتت بها الولايات المتحدة إلى لبنان تحت عنوان 17 تشرين الأول من العام 2019”. ليعود ويقول إن الحكومة والسلطة في لبنان لا تتجرأ على رفض أوامر واشنطن! يا له من تناقض في خطاب واحدٍ… لا خطابين!.
أولاً، من هم موجودون في السلطة مرتبطون بواشنطن لا الذين نزلوا إلى الشارع عشية 17 تشرين، ثانياً، تحليل نصر الله إذا أردنا توصيفه بشيء لن نستطيع القول بأنه سطحي أو غير متين، هذا واضح وبديهي، فأي فوضى تريدها واشنطن تلك التي تعطل دور أدوات تحكمها الأبرز بالبنى المالية والاقتصادية في البلاد، أي المصارف، أي فوضى تريدها واشنطن لضرب مهندس البنية المالية التابعة، أي رياض سلامة فيما يمثل… من التفاهة الاعتقاد أن واشنطن لا تدرك موازين القوى الشعبية (حزب الله وحركة أمل قادران على السيطرة وتحريك أكبر قاعدة طائفية حتى تاريخه) وبالتالي فأي تخلٍ عن بنى كانت توفر لواشنطن السيطرة والمعلومات على البنية النقدية والمالية في البلاد، كان يجب أن يواكبه تحقيق مكاسب أكبر من خلال السيطرة على البلاد بأمها وأبيها، ولا أظن أن واشنطن ودوائر الدراسات والقرار الغربية كان لديها ادنى وهم في هذا.
يغفل نصر الله في خطابه، كون منطلقات الانتفاضة الشعبية موجودة ومنطقية وهي حصيلة لسياسات خصومه وحلفائه وسياسات وزرائه المتعاقبين في السلطة، وزرائه ونوابه الذين لا يملكون تصوراً بديلاً عن بيع القطاع العام للمتنفذين في البلاد، الذين لم يقدموا أي مشروع متكامل لإدارة الثروات والبنى القائمة (ورقة واضحة ومفهومة تحدد كيفية كسر الحلقة الاقتصادية – المالية المؤدية للإنهيار) وقتها، ظنّ كثر وأنا منهم، أن هناك نقص مفهومي ومعرفي لدى حزب الله في هذا الإطار، أي أن عدم اتجاههم لكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد من خلال مشروع يؤسس لما هو مختلف (اقتصاد وطني مقاوم قادر على الإنتاج الزراعي والصناعي وفك الارتباط التبعي للمنظومة المالية بالضرورة) هو نقص مفهومي لديهم، لكن الحقيقة كانت أسوأ: حزب الله يريد لهذه المنظومة الاستمرار على أن يكون لاعباً رئيسياً فيها، وما 17 تشرين التي وصفها نصر الله (بالمؤامرة الأميركية) إلا جسر عبور له ليكون جيش المنظومة الذي يدافع عن كيانها التبعي للأميركي. ومن هنا يتضح أكثر أن (ملفات) فضل الله ما هي إلا أدوات ضغط داخل المنظومة لتحسين شروط التفاوض على المواقع – فهذا الحزب الآتي من خارج المنظومة لا يريد إلا مقعداً داخلها بأي ثمن – ملفات فضل الله تشبه (الفضائح) التي يهدد فيها أي جهاز استخباري المرشح للعمالة للتعاون معه، أي أنه لن يستخدمها لأن هدفه هو الابتزاز بها لا أكثر ولا أقل. الحزب أراد ابتزاز المنظومة بطفولية وبكل الطرق للسماح له باللعب معهم.
في خطاب ما قبل 17 تشرين، قال السيد نصر الله أن الحزب بدأ حرباً على الفساد، ابتهج بعض الزملاء وقتها بخطابه، أنا وقفت مشككاً وقلت: هل السيد نصر الله على استعداد لفتح ملفات الحليف الشيعي وسلسلة المصالح التي يمثلها؟ هل هو مستعد لمواجهة ارتباطات حاكم المصرف مع حلفائه قبل خصومه؟ كان كلامي نشاز بالنسبة لهم، قلت: الحرب على الفساد إذا كان صادقاً في خوضها ستكون أصعب على حزب الله لأنها لن تؤدي إلى خسارته (حلفاء) فقط، بل منتفعين داخل بنيته التنظيمية…
لا أتحدث عن هذا الخطاب هنا لأشكك في صدقية نصر الله بشأن مواجهة الفساد، بل لأقول أنه هو نفسه كان على علمٍ بالواقع القبيح الذي أوصلت المنظومة الشعب إليه، وكان يريد أن يلعب دور الضامن للناس (في طائفته على الأقل) بأنه سيواجه مستويات الفساد وسياسات الإفقار، وأن (لا تثوروا ولا تنزلوا إلى الشوارع، أنا سآخذ حقكم، سأحسن أواضعكم!).
بالمحصلة، السيد نصر الله كان يعلم أن الناس ضاقوا ذرعاً بكل الملفات؛ بالفساد وسيطرة المنظومة على الأملاك البحرية والنهرية ونهب المال العام، ونهب مقدرات المقيمين و(المنتشرين – بحسب توصيف حليفه) الناس ضاقوا ذرعاً بغياب دور الدولة عن تأمين الوظائف الأساسية والحيوية من كهرباء ومياه واستشفاء، وأتت خطة زيادة الضرائب التي رعتها حكومة وزرائها معظمهم من حملة أسهم المصارف، لينفجر الشارع، هكذا (خلطة) لا تحتاج إلى (ولايات متحدة) لإشعالها.
طبعاً المنتصر يكتب التاريخ، وهذا ما قاله نصر الله بالأمس، أنا أكتب التاريخ لأنني أخمدت هذه الانتفاضة لصالح شركائي في الحكم، معتمداً أن الرأي العام لا يغوص في دراسة وتمحيص الأسباب الفعلية للانتفاضة (هل هي خطة واشنطن أم لا) تحدث عن (مقام) رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب! وأغفل أنه في خطابه الثاني بعد الانتفاضة رفع شعار حماية الحريري (أي الحكومة) وأنه لن يسقط في الشارع، الحزب اتخذ وضعية الدفاع عن السلطة بكاملها، عن المنظومة بكاملها. وأكد أنه لن يلعب حتى دورٍ إصلاحي، بالمحصلة، لقد غرق حزب الله بالكامل مع المنظومة.
ما دفع “القوى المرتبطة بواشنطن” للسيطرة بعد أسبوعٍ أو أكثر على جزء أساسي من الإنتفاضة، هو نصر الله الذي خونها، عقب خطاب قال فيه إن المطالب محقة وشرعية وعبر عن دعمه لها، عاد ليطلب بعد أيام من أنصاره ومن يحبه ومن (الشرفاء) أن يخرجوا من الشارع، بذريعة واهية هي “السباب والشتائم” أي أن النهب مسموح، القتل مسموح، الكذب والتخلي عن دور الدولة وعن مقدرات البلاد، كل هذا مسموح، أما توجيه الشتائم (انتقام الضعفاء) فهو المكروه والممنوع، بالمحصلة؛ اصطدم نصر الله بشارع وطني من طرابلس حتى النبطية وصور، أراد أن يشقه، (البلطجة هنا لا تنفع ولن تؤدي الغرض) ولم يجد أفضل من وضعه في الملعب الأميركي لاتهامه تمهيداً لتشتيته ونجح في ذلك بالتعاون مع خصومه السياسيين.
طبعاً أغفل نصر الله في خطابه كل سياسات حلفائه، ممن لا يرى “عداء ايديولوجي مع اسرائيل” أغفل تهريب الفاخوري، والتنازل عن حقوق لبنان البحرية، وصولا إلى كل ارتباطات أطراف السلطة (وهو منهم) بالخارج، أغفل كل ذلك بهدف التوصل إلى تسوية مع الولايات المتحدة واسرائيل، بهدف حماية المنظومة من خلال شعارات مرتفعة السقف وتهديدات لا تهدف إلا إلى انتشاء أنصاره بهدف تمرير الصفقة للحفاظ على المصالح المنظومة وحمايتها على حساب المجتمع.