خطة تعافي حكومية أم حزمة تدابير “صارمة” | بقلم د. أمين صالح
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
أهداف أربعة تسعى خطة التعافي الحكومية إلى تحقيقها:
• وضع اليد على ما تبقّى من أموال المودعين بالعملة الأجنبية.
• استمرار الدين العام وزيادة عبئه.
• زيادة الضرائب والرسوم وخصوصًا زيادة معدل الضريبة على القيمة المضافة من 11% إلى 15%، واعتماد سعر صرف الدولار في السوق الموازية لاستيفاء الضرائب والرسوم، أي زيادتها بنحو 20 ضعفًا.
• تمويل الإنفاق الحكومي بالتضخّم، أي خفض سعر صرف العملة الوطنية وزيادة أسعار السلع والخدمات ولا سيما العامة منها.
إن ما سُمّي خطّة التعافي التي أقرّتها الحكومة في جلستها المنعقدة بتاريخ 20/5/2022، ليس أكثر من مذكّرة بشأن السياسات الاقتصادية أو المالية، متقطّعة وغير مترابطة. وهذه المذكّرة لم تتطرق إلى التوصيف الموضوعي العلمي للأزمة ولا إلى أسبابها الحقيقية العائدة إلى سياسات الحكومات المتعاقبة وفساد الحكم، ولا إلى نهب المال العام ومرافق الدولة العامة. بل أقرّت فقط بوجود أزمة وأشارت إلى بعض مؤشراتها؛ العجز الضخم في الميزان التجاري والمالية العامة، الهشاشة الهيكلية في الاقتصاد، غياب مؤسّسات قوية، تخلّف الدولة عن سداد ديونها، تداعيات وباء كورونا، انفجار مرفأ بيروت. وبحسب الخطّة، أسفر ذلك عن انهيار الاقتصاد وسوء الأحوال الاجتماعية واستدامة الفقر. بهذا التبسيط اقترحت المذكرة حزمة تدابير وصفتها بأنها “صارمة” في إطار هدف الاستقرار الاقتصادي وإرساء أسس النموّ القوي المتوازن.
اقتراحات السلطة في هذه الخطّة تستكمل نهجها السابق لنهب وسرقة المال الخاص بعد المال العام. فمن خلال اقتراح برنامج اقتصادي يعتمد أساسًا على إعادة رسملة النظام المصرفي بعد شطب نحو 60 مليار دولار من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف التجارية، وإعادة رسملة مصرف لبنان بسندات سيادية قيمتها 2.5 مليار دولار، وإلغاء باقي خسائر المصرف المركزي على مدى خمس سنوات، هي تعلن بكل وقاحة ومن دون مواربة، بأن خسائر الدولة ومصرفها المركزي، والتي هي أصلًا أموال سرقتها الطغمة الحاكمة، سيتحمّلها الشعب اللبناني عن طريق مصادرة أمواله المودعة في المصارف. إذ إن المصارف ستشطب بدورها 60 مليار دولار من أموال المودعين، بحجة أنّ البنك المركزي شطب هذه المبالغ من ودائع المصارف لديه، وبذلك يكون المودع قد تحمّل خسارة الأموال المسروقة من المال العام والخاص، وتكون الخطّة قد أبرأت ذمّة القائمين على المصرف المركزي والمصارف والمسؤولين الحكوميين عن سياسات الهدر والتبذير والسمسرات.
وفي تراتبية توزيع الخسائر، سيتم شطب رأس مال المصارف أولًا، ثم الودائع ثانيًا مع حماية ضمن حدّ أقصى يبلغ 100 ألف دولار. وبالفعل أعلنت الخطّة أنها شرعت في عملية تقييم لأكبر 14 مصرفًا تمثل 83% من مجمل أصول المصارف، على أن يتم في النهاية ضخّ رأس مال جديد في المصارف القابلة للاستمرار، وإعادة توزيع الودائع المتبقية بالدولار أو الليرة بسعر يحدده السوق، وتصفية المصارف غير القابلة للاستمرار. ما يعني أنه سيتم منح كل من اعتدى على المال العام والخاص من مسؤولين عامّين ومصرف مركزي ومصارف تجارية إعفاء مقنعًا وتبرئة ذمّة. فالإنقاذ يبدأ من إطلاق سراح التدقيق الجنائي في مؤسّسات الدولة كافة، وتحديد مسؤوليات تبديد الأموال العامة، وصولًا إلى محاكمة كل من يظهره التحقيق سارقًا أو ناهبًا أو متواطئًا أو متدخلًا، واستعادة الأموال المنهوبة، ولا سيما فوائد الدين العام والهندسات المالية والضرائب غير المدفوعة عمدًا، واسترداد الأموال بالعملة الأجنبية المحولة إلى الخارج… تدابير كهذه تبدو صارمة أكثر من التدابير المقترحة.
فضلًا عن أن المباشرة بالتقييم يمثّل اعتداء على الدستور. فأموال المودعين ملكية خاصة لا يمكن القبول بالتعرض لها إلا وفقًا للقانون.
فمن أجاز للجنة الرقابة على المصارف والشركات الدولية وصندوق النقد الدولي القيام بعملية تقييم لخسائر المصارف رغم السرية المصرفية؟ ألا يشكل ذلك إفشاء للمعلومات المالية والنقدية والاقتصادية ومسًّا بمكانة الدولة المالية؟ أليس هذا العمل يعاقب عليه قانون العقوبات وقانون النقد والتسليف؟ ألا يشكل هذا التعدّي سببًا إضافيًا لهروب ما تبقى من مال بالعملات الأجنبية؟ وبالتالي تعريض البلاد لانهيار كلي في الاقتصاد وفي معيشة الناس؟
كما أنّ الخطة تجاهلت تمامًا حجم الخسائر اللاحقة بالدولة ككل، كما تجاهلت حجم الودائع التي تدّعي أنها تحميها، أي الودائع التي تقلّ عن 100 ألف دولار، كما أنها تجاهلت مصدر تمويل هذه الودائع. هذا التجهيل مقصود لأن واضعي الخطة يدركون أنهم ليسوا بصدد تسديد هذه الودائع لأنهم لا يملكون التمويل، ولكنهم يتعمّدون التمويه لتمرير شطب الودائع.
لكن الخطّة لا تكتفي فقط بتوزيع الخسائر بشكل استنسابي، إنما كشفت بأنها تقف وراء تدابير زيادة الضرائب والرسوم التي أُدرجت في مشروع موازنة عام 2022، فضلًا عن تدبير اعتماد سعر صرف رسمي جديد، وتغطية العجز المحتمل في الموازنة من التمويل المتاح الخارجي بدلًا من الداخلي. هذا برأيهم ما سيضع الدين العام (بعد الاتفاق مع الدائنين على الهيركات) على مسار تراجعي، ويتيح لهم زيادة الإنفاق على الجانب الاجتماعي وعلى البنية التحتية عن طريق تحقيق فائض أولي 1% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2026 بما يتّسق مع القدرة على تحمل الدين والتمويل الخارجي المتاح. غير أنّ العودة إلى هذه السياسة، يثبت إصرار المنظومة الفاسدة على أهدافها التدميرية للاقتصاد والمالية العامة. فهي مصرّة على سياسة الدين العام التي كانت هي أساس الانهيار، بل أنكى من ذلك هي مصرّة على تحويل الدين من دين داخلي إلى دين خارجي، وهي سياسة تدميرية للثروة الوطنية بتحويلها من داخل البلاد إلى خارجها عبر دفع الفوائد عليها إلى الدائنين الخارجيين بينما يقتضي إلغاء الدين العام والتخلص من فوائده.
كما أن التدابير المقترحة للإيرادات والنفقات العمومية، هي تدابير عادية وروتينية يقتضي مراجعتها وتعديلها باستمرار لتتلاءم مع المستجدات الاقتصادية في البلاد، لذا من المعيب على السلطة اقتراحها كإصلاحات بدلًا من المبادرة فورًا إلى تطبيق أحكام القوانين والأنظمة النافذة كقوانين الضرائب وقانون المحاسبة العمومية.
في الواقع، يُعد أمرًا خطيرًا أن يقوم فريق مجهول بالتدخّل في سعر صرف المعاملات المصرّح عنها من دون بيان الجهة التي لها صلاحيات لهذا التدخل. لذا، نرى أن البلاد أصبحت تحت سيطرة جهة مجهولة تتعاون وتنسّق مع جهات خارجية. ويبدو من الخطّة أن السلطة الحاكمة عازمة على تحرير سعر صرف الليرة قبل معالجة الانهيار المالي والاقتصادي والدين العام ما سيفاقم انهيار سعر العملة الوطنية والتضخّم وانهيار ما تبقى من قدرة شرائية لمداخيل المواطنين.
إلا أنه في مجال الاقتراحات المتصلة برفع كفاءة حوكمة مصرف لبنان واستقلاليته، فلا بدّ من النظر بإيجابية إليها، إذ إنها مطلب دائم وملحّ علمًا بأن السلطة السياسية تتحمّل مسؤولية الأوضاع الخطرة التي آلت إليها حالة المصرف المركزي، ويجب محاكمة المسؤولين عنه.
اللافت أن المنظومة الحاكمة، ومن خلال هذه الخطّة، تحاول تكريس واقع الفقر وتعميقه وتعميمه لأنها ترى فيه مصلحة لها لاستتباع الناس.
وهي تكثّف اقتراحاتها بشأن إعادة هيكلة البنية القانونية للمؤسسات المملوكة من الدولة، بينما المشكلة لا تكمن في وجود القوانين، بل في تطبيقها وفي رفع يد قوى السلطة عن هذه المؤسسات.
وفي الكهرباء، ردّدت الخطة ما هو مكرر مرات منذ اتفاق الطائف عن خطط المعالجة، إذ لم تسفر هذه الخطط إلا مزيدًا من الظلام فيما مشكلة الكهرباء في سرقة التيار، وفي ضعف القدرة الإنتاجية، وفي مافيات المحروقات ومتعهّدي أعمال وأشغال المؤسسة ومافيات المولدات وجميعهم مدعومين من أطراف السلطة التي تحول دون القرار السياسي بحل أزمة الكهرباء ، هذا فضلًا عن أنّ أطرافًا سياسية مالية تريد خصخصة القطاع بأبخس الأثمان.
ولا بد من تحذير السلطة من انزلاقها في خطة التعامي هذه نحو تبني قانون تشغيلي للامتثال بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بالإرهاب التي قد تتضمن مسًا بسيادة لبنان واستقلاله عبر استهدافها لقدراته المقاومة ضد العدو الصهيوني ، وندعو إلى فضح هذه المحاولة وإسقاطها .
ونسجّل للخطة لناحية نظام التقاعد في القطاعين العام والخاص بعض التقدم ولكن بعض الاقتراحات غير واضحة، لذلك نحذّر من المسّ بحقوق المتقاعدين.