ازمة لبنانالاحدث
رئيس للوطن لا للدولة فقط | بقلم هنري زغيب
منذ الأَيام المطَّاطة الأَخيرة، واللبنانيون – هُنا وأَينَما هُم في مَهَاجِرِهُم – مشدُودُون إِلى الشاشات ساعاتٍ طويلةً من النهار والليل، يتابعون الجلجلةَ اليوميةَ الْــيُعانيها لبنانُهم الوجيع. معظمُ الضيوف المحلِّلين والخبراء والمنظِّرين على درجة عالية من الخبرة والاطِّلاع على الموضوع الذي يُسْتَضافون إِليه. سوى أَن أَحدهم (وهو سياسي حاليّ) ورَدَت في كلامه عبارة “لبنان وطنٌ صغير”. وأَكملَ عاديًّا غيرَ مُدركٍ فَداحةَ ما قال. ولا عجب، فمعظم “بيت بو سياسة” يخلِطُون، جهلًا أَو عُقْمًا، بين عبارات “البلد” و”الوطن” و”الدولة”. كلُّ ما يَهُمُّهم منها: العرضحالات أَمام مُشاهديهم، رصيدٌ لهم لدى أَزلامهم في الانتخابات المقبلة.
أَيضًا وأَيضًا أَجدُني أُوضح أَنَّ الوطن هو الشعب على أَرضه ووسْعَ مَهَاجرها في العالَم. الوطن لا حدودَ جغرافيةً له، بينما الدولةُ محدودةٌ في البقعة الجغرافية ضمن الحدود المعترَف بها دُوَليًّا فلا سُلطة لها على شبْر واحدٍ خارج هذه الحدود. وأَكثر: الوطنُ مدًى حضاريٌّ يُشكِّلُهُ مُبْدعوه في كل حقل واختصاص وميدان، بينما الدولةُ هيئَةٌ معنويةٌ تُديرها سلطةٌ ماديةٌ إِذا كانت صالحةً تبني دولةً متماسكة، وإِن كانت سُلطة فاسدة تبني على صورتها دولة فاسدة لا تلبثُ أَن تُهَجِّر شعبَها وتُشَوِّهَ صورة الوطن عند مَن يخلِطون بين الدولة والوطن.
وطالما الحديث عاد أَخيرًا يدور في الأَوساط على ضرورة انتخاب رئيس، فلتكُن المعايير أَلَّا يكونَ إِفرازَ الطبقة الحالية ذاتِها التي تختاره ليكونَ تابعًا لها.
صحيح أَنه نتيجةُ تصويتِ نوَّاب الأُمَّة، لكنَّ مسؤُوليةَ هؤُلاء أَلَّا يكونوا مجرد رافعي الأَيدي ببغائيًّا وَفْق أَوامر رؤَسائهم وزعمائهم، بل أَن يختاروا مَن لا يكون رئيسَ دولةٍ متهالكةٍ تحت فساد هالكيها. ولبنانُ غنيٌّ، محليًّا وعالَميًّا، بأَعلامٍ جديرين أَكفياء يُعيدون إِلى لبنان سيرةَ حُكَّام عرفَهم لبنان، كانوا خُدَّامًا للدولة لا مستخدِمي الدولة، وعمِلوا لتأْمين مستقبلِ لبنان لا مستقبلِ نسْلِهم بعدَهم.
من هنا، خَلاصًا وإِنقاذًا، ضرورةُ أَن يكونَ على رأْس الدولة رئيسٌ لا يحكُمُ الدولة على أَرضها فقط بل يعي في حُكْمُه أَهمية الوطن على أَرضه وفي العالَم، ويخلَع عن شعبنا نير الزبائنيات وأَغلالَ المحاصصات السياسية.
هذا هو الرئيس المطلُوب اختيارُه: لا “توافقيًّا” بين مصالح الكتل السياسية، بل “اتفاقًا” على رجل استثنائي لهذا الزمن الاستثنائي. وفي لبنان نخبةٌ ساطعة لامعة من لبنانيينَ جديرين أَكْفياء، خارجَ مزرعة السياسين ورؤْساء القبائل اللبنانية المتَّحدة وأَولياء العشائر السياسية.
المطلُوب رئيسٌ يَعرف ويُعرِّف “شو يعني” أَن يكون المواطن لبنانيًّا، و”شو يعني” أَن يكونَ اللبنانيُّ ابنَ لبنان لا ببطاقة الهوية بل بالانتماء إِلى وطن الأَرز.
المطلوب رئيس يَعرِف ويُعَرِّف أَنَّ الخلاص هو التشبُّه بالأَرزة، لا بالتي فقط في وسط العلَم اللبناني وعلى جبين جواز السفَر، بل التَشَبُّه بجذْع الأَرزة الواحد الموحَّد الموحِّد، منه تَتَفَرَّع الأَغصانُ كيفما اتفق إِنما متَّفقَةً على عَودتها جميعِها لتَلْتَمَّ منتميةً إِلى الجذع الواحد.
إِذًا: الجذْع هو الوطن: أَي لبنانُ اللبنانيُّ الطالعُ من جذور لبنان الحضاري، أَغصانُهُ رجال السلطة والدولة الذين مهما تَشَعَّبَتْ آراؤُهُم يعودُون فَيَلْتَمُّون دومًا حول الجذع الواحد الوحيد لمصلحة نُمو الأَرزة. فالأَرز الوارفُ من فَوق على فَـيْءِ لبنانَ الآمن، يحملُ في صمت نُسْغه مئاتِ السنوات الخصيبة. هكذا: ما تَقولُهُ الأَرزةُ في صمْتِ جذْعها والحفيفِ في أَوراقِ أَغصانها، فَلْنَنْطِقْهُ كلماتٍ ساطعةً في الشمس تأْتي برئيس على مستوى الأَرزةِ فلا يكونُ هو في قلبها بل تكونُ هي في قلبِه برَمزيّتها، فيجمع حول جذعِها الواحدِ جميعَ الأَغصان المتفرعة، وينهضُ بالدولة والوطن معًا، فيعودُ لبنان إِلى لبنان، ويتشكَّلُ أَمامنا وبَعدَنا مستقبلٌ يجعل أَولادَنا فأَولادَهم يعتزُّون بأَنهم ينتمون إِلى وطنهم لبنان.