رحيل “العرّاب” | كتب أكرم بزي
قد يكون آخر رجالات “الدولة اللبنانية” الذين جبلوا من تراب هذا الوطن المبعثر والممزق، وآخر من بقوا متمسكين بمبادئهم و”أخلاقهم السياسية”، فالسياسة في لبنان “لا ضابط لها ولا أخلاق”، لطالما كنا نشهد مواقف لرجال السياسة في لبنان تجعلنا “نلوّح” برؤوسنا، ونستغرب المواقف التي تصدر عنهم، صباحًا موقف، ومساء موقف مناقض، لعلها لوثة السياسة اللبنانية التي جعلت لـ لبنان قاموسًا سياسيًا خاصًا لا مثيل له في العالم، ويعجز عن فهمه سوى “الراسخين في العلم” من جهابذة المطبخ السياسي اللبناني.
الرئيس الراحل حسين الحسيني “السيّد” أو “أبو علي” كما كان يناديه أهل السياسة وأهل منطقته وأهل بلدته شمسطار، ولعل “السيّد أبو علي” كان الاسم المحبب إلى قلبه من باقي الألقاب التي حظي بها طيلة فترة حياته، وعُرف عنه بأنه “أبو الطائف” و”عرّاب الطائف”.
قلّة هم الذين بقوا على قيد الحياة من ذاك الزمن “الجميل”، و”الجميل” هنا ليست لجمال المرحلة، بل لما كانت تحمله هذه الفترة من الزمن من رجالات الدولة التي كانت تليق بهم الدولة والتي جعلوا من “الدولة” بحضورهم وهيبتهم وأشخاصهم، “دولة”، كانت المواقف بالنسبة لهم مواقف “رجال دولة”، وكانوا اذا ما خُيّروا بين أن يتنازلوا عن موقف ما أو قرار ما، يفضّلون الإنسحاب بطريقة دبلوماسية، أو الاعتكاف أو في بعض الأحيان الاستقالة من مناصبهم، مثلما حصل في تموز ١٩٦٠ مع الرئيس الراحل فؤاد شهاب خلال ترؤسه مجلس الوزراء، قرأ الرئيس شهاب رسالة موجهة الى رئيس مجلس النواب صبري حماده، “أعرب فيها عن قراره الاستقالة من مهام الرئاسة! والذي جاء في تعليلها، زوال الظروف الاستثنائية التي سبّبت أزمة ١٩٥٨، وحصول انتخابات نيابية جديدة، وعودة الاستقرار وتوازن العلاقات العربية – اللبنانية”.
يومها “اقترح العميد ريمون اده إحراق رسالة الرئيس. ووافق النواب وأتلفها النائب ألبير مخيبر”. وكان احتفالٌ وطني… حمل صبري حمادة وعدنان الحكيم الرئيس شهاب على الأكتاف، على وَقع تصفيق كمال جنبلاط، رشيد كرامي، بيار الجميل، صائب سلام، ورينيه معوّض وسواهم. وهذا الحدث كان الأول من نوعه في تاريخ لبنان والمنطقة!
يروي الزميل والصديق الأستاذ واصف عواضه في كتابه الصادر عام 2015 بعنوان “ليس كمثله يوم”:
“فجر أحد الايام عام 1980 أُطلقت قذيفتان صاروخيتان على منزل الحسيني في عرمون، لكنه لم يصب وعائلته بأي أذى، وتوجّهت أصابع الإتهام الى حركة “فتح” بزعامة الرئيس ياسر عرفات”. طلع الصباح وانتشر الخبر وغصّ منزل الحسيني بالزوار لتهنئته بالسلامة. كانت المفاجأة في إعلان الحسيني استقالته كأمين عام لحركة “أمل”. وكنت أول الواصلين الى المنزل. أمسك الحسيني بيدي وقادني الى غرفته الخاصة المواجهة لطريق عام خلدة التي لا تبعد عن المنزل أكثر من مئتي متر. والغرفة عبارة عن مكتبة وصالون صغير وسرير غالبًا ما يستريح عليه الحسيني عندما يطالع. لقد اصابت إحدى القذيفتين الصاروخيتين السرير مباشرة ودمّرت جزءا من الغرفة، ونجا الحسيني من انفجارها حيث أنقذته الصدفة”.
رَوت لي عقيلة الحسيني المرحومة السيدة حياة (ام علي) تفاصيل الحادث كما يلي: “كنت في المطبخ قبَيل منتصف الليل احضّر فنجان قهوة، وكان السيّد حسين (أبو علي) في الصالون المجاور عندما رن جرس الهاتف، فتوليتُ الرد من المطبخ، وكان على الخط السيد وليد جنبلاط الذي طلب التحدث الى السيّد. ناديته للرد على المكالمة، فقال لي إنه سيتلقاها من جهاز الهاتف الموجود في غرفته الخاصة، ولكنّ حشريتي ورغبتي في الاستماع الى المكالمة دفعتاني كي ألحّ عليه ليتناول سماعة الهاتف التي أمسك بها في المطبخ كي لا نؤخر الرجل على الخط. لم يكد السيد يبدأ حديثه مع جنبلاط حتى انطلقت القذيفة الصاروخية الأولى ثم الثانية فأصابت السرير مباشرة في الغرفة ونجونا بأعجوبة”.
“قلتُ للحسيني ونحن نراقب ما فعلته القذيفة الصاروخية: الحمد لله على سلامتك سيّد.. ولكن لماذا الاستقالة؟ ألا تخشى ان يُحسب هذا الامر عليك خوفًا وهروبًا من المسؤولية؟ قال الرجل بلغة الواثق: لست خائفًا على نفسي. سأقول لك أمرًا في غاية الأهمية. هذه القذيفة لا تستهدفني شخصيًا فقط. هذه القذيفة ستجرّ بحرًا من الدماء بين الشيعة والفلسطينيين، وأنا يا عزيزي لا أريد ان أحمل في رقبتي نقطة دم واحدة”.
هكذا كان “السيّد أبو علي”، يضحّي بالمنصب لأجل البلد وليس كما يفعله “رجال السياسة” اليوم في هذا البلد “يضحّون بالبلد لأجل المناصب ولأجل حفنة من الدولارات”.
كانت “الهيبة” تعني لهم، وكانت تكلّفهم أحيانًا مناصبهم. لطالما كانوا يعتبرون أن هيبتهم من هيبة الدولة، وإذا ما سقطت هيبة الدولة سقطوا هم، لذلك كانوا أحيانًا يوقّعون بعض القرارات في مجلس الوزراء على مضض وعلى غير قناعاتهم أحيانًا فقط لأجل “هيبة توقيع رئيس مجلس الوزراء أو توقيع رئيس الجمهورية عليها”.
لعلّ دولة الرئيس سليم الحص، آخر المتبقّين (أطال الله في عمره)، تعرّض لعمليات اغتيال كادت أن تودي بحياته لولا العناية الإلهية، وغيره من الرؤساء والزعماء النادرين في زماننا، من رجالات الدولة الذين مروا في تاريخ لبنان، كالرئيس الراحل رشيد كرامي الذي دفع حياته ثمنًا لمواقفه الوطنية، وغيرهم الكثير وعلى رأسهم المرجع السيد محمد حسين فضل الله (أنقذته العناية الإلهية) والإمام المغيّب السيد موسى الصدر (والذي لا يعرف مصيره حتى الآن)، والرئيس كميل شمعون الذي أصيب يومها في فكه ونجا بأعجوبة، وابنه داني شمعون الذي اغتيل هو وعائلته، ومجزرة إهدن التي راح ضحيتها طوني فرنجية ابن الرئيس الراحل سليمان فرنجية وغيرهم من الزعماء ورجال السياسة.
عندما استقال الرئيس حسين الحسيني من منصبه في المجلس النيابي في العام 2008 علّل أسباب استقالته على طريقة رجال الدولة: “غياب القوانين” والتي من شأنها تنظيم عمل المؤسسات والاجهزة في الدولة”. و”الوطن في خطر أكثر مما تعتقدون”. هكذا خاطَب الرئيس الحسيني النواب. وتابع: “كأنّنا نريد دولةً بلا مؤسّسات، كأنّنا نريد وطنًا بلا مواطنين…”. وحَمّل الرئيس الحسيني “الطبقة الماليّة المتحكّمة” مسؤوليّة عدم إقرار “قانون انتخاب صالح”. وخرق الدستور وتمزيقه “حيث ندفع بنصّ الدستور إلى أن يكون استهزاءً بروحه”.
“الوطن في خطر” و”خرق الدستور”، كلمتان أساسيتان في خطابه، من الأسباب الجوهرية التي جعلته يستقيل من منصبه، في الوقت الذي يلهث فيه بعض الأشخاص لبيع أنفسهم ودفع الأموال وإرهاق ماء وجوههم للحصول على مقعد نيابي لاستغلال مناصبهم ونهب الدولة.
رحل “العرّاب السيّد أبو علي”، و”مبادىء المعارضة اللبنانية”، الكتاب الذي أصدره في العام 1994، والذي عبّر فيه بأسلوبه المهذب والرصين عن بعض المبادىء السياسية التي ارتبط بها، جعلته “نموذجًا” لبعض أقطاب السياسة في لبنان، والذين يُحصون على أصابع اليد الواحدة، “للأسف”.