رسالة عبر الزمن إلى دولة الرئيس رفيق الحريري | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
بمناسة ما اصطلح على تسميته بعيد الحب، أقول لك ولأول مرَّة: أحبك أيها الرئيس الشهيد، ولكني عاتب عليك أيضا.
أحبك وان لم أكن ممن انتفعوا منك أو بأموالك أو عطاءاتك، او ممن كانوا يسعون لنيل رضاك أو التقرب منك، بل من أكثر المُتضررين، من سياسة المحاصصة التي أستمسكت بها الحاشية من بعدك.
أحبك لأني عرفت فيك الروح الوطنية، وميزات الزعامة، والإقدام والمناقبية، كما مزايا الرجولة والشهامة، والتفاني في سبيل الوطن، وكذلك لأنك كنت أيضا مدرسة لمن يرغب في النهوض بالوطن من بين الركام. ولأنك آمنت بحقنا في أن نعيش في وطن آمن مزدهر.
نعم أحبك بقدر عظمة هامتك، ووقارك وتسامحك وتواضعك.
أقول أحبك يا دولة الرئيس من دون خجل ولا وجل، بقدر ما يكرهك كل أعدائك وخصومك، وبقدر كل الحقد الذي تكشف قبل وبعد استشهادك.
أحبك بقدر عدد الذين يعبرون الطرقات التي شقيتها وعبدتها لوصل أشلاء الوطن.
وبقدر أهمية الخدمات التي تقدمها المرافق والمنشآت الوطنية الحيويَّة التي شيدتها، وبقدر عدد الاسرَّة في المستشفيات الحكوميَّة التي بنيتها أو جهزتها، وبقدر مساحة المنشآت الرياضية التي أقمتها ورتبتها، وبقدر عدد المقاعد في الجامعة اللبنانية والمدارس الحكومية التي استَحدثتها، وبقدر عدد كلمات الكتب التي قرأها الطلاب الذين أوفدتهم إلى الخارج لتلقي العلوم ووفرت لهم منحا دراسية، وبقدر عدد حجارة أبنية سوليدير وطرقاتها وأرصفتها، وعلى قدر أنوار الكهرباء التي أنرت بها عتمتنا، وبقدر الكلمات المتبادلة عبر شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية التي حققتها، وبقدر كل الآمال التي زرعتها في كل فرد منا.
أحبك طوعا، ونكاية بكل كاريهك، ومبغضيك، والحاقدين عليك، والغادرين بك، والجاحدين بما فعلت، والغوغائيين المضللين، والجهلاء المتفصحنين ونافثي السموم، والمرائين والمصطادين في الماء العكر.
لكن يا دولة الرئيس أنا في المقابل عاتب عليك أشد العتب، لجملة من الامور، اولها لأنك استودعت الله هذا البلد الحبيب، وتركته فريسة تتناتشه ذئاب الجهل والجشع والغباء والحق، والأنا او اللا أحد.
عاتب عليك بقدر ما فُجِعَ لبنان برحيلك، وبقدر ما همِّشت طائفتك من بعدك، وبقدر حالة العزلة التي وقع فيها لبنان بغيابك، وبقدر تعثَّرات المُقاومة من دون حَضانتك، وحالة الفقر التي يعاني منها الشعب بغياب رؤيتك، والجوع والبرد الذي يسرق النوم من أعين الفقراء والاطفال الذين يتموا بموتك.
إني عاتب عليك، بقدر سَخائتك على المرائين الذين أحاطوا بك، وبقدر مغانم المقاولين الذين اغتنوا من موقعك. وبقدر ثروات أزلامك وحراسك وحاشيتك، وبقدر جَشَعِ الزُّعماء الذين غدروا بك، وبقدر افتراس الذين حاولت أسكاتَهم بحفنات من الاموال تجنبا لعرقلة نهضتك العمرانية، وبقدر جحود من حجبت عنهم وصمة الارهاب بعلاقاتك ومعارفك، وبقدر لؤم دولّ مارقةٍ سعيت لرفع هذا التوصيف عنها بكل جوارحك، وبقدر ظلم الدول التي سعيت إلى إعادتها إلى الخارطة الدولية بفضل صداقاتك، وبقدر نُكرانِ جميل كل من وقفت إلى جانبه او أعنته، وبقدر سكوتك عن حماقات كل من كان يُسوِّقُ ان الاعمار للحجر لا للبشر، وبقدر حجم مؤامراتِ التَّشويه التي طالت عمليَّة إعادَةِ الإعمار وتصويرِها على أنها رهان على التَّطبيع مع العدو، وبقدر الظلم الذي لحق بأصحاب الحقوق في الأسواق القديمة، ومن هُجِّروا من منازلهم، جراء المتاجرة بالمهجرين والمُتضررين من الحرب الأهلية.
نعم إني عاتب عليك أكثر مما تتصور، عاتب بقدر حقد التخريبيين الذين خربوا وسط المدينة التي أعدت بنيتها لأجلهم، وتشويههم لجدران المباني، وتكسيرهم لشارات السير وتحطيمهم لواجهات المحال التجارية، ولحرمانهم الناس من الترفيه عن النفس في مكان لائق نظيف ومرتب.
عاتب عليك ايضا بقدر الفراغ الذي خلفته بعد رحيلك، وبقدر مَخاطِرِ الخياراتِ السياسية التي ساقنا إليها خلفاؤك، وبقدر غدر من كانوا حولك، ونكران جميل المنتفعين منك وبوجودك، وبقدر خساسة المتطفلين على السِّياسة من بعدك، وبقدر زلات ألسن وتعثُّراتِ من توارثوا موقعك.
وأخيرا عاتب على قدر كل الافتراءات التي طاولتك بعد استشهادك رغم وعيهم بفظاعة ما أصابنا وإياهم بعد النيل منك.
دولة الرئيس، إني عاتب عليك، لكني لست بناقم، ولا لائم، نم قرير العين، مُرتاح الضَّمير، لأنك حذَّرت من الطوفان من بعدك، إذ قلت “أستودعكم الله هذا البلد الحبيب”، العزيز على قلبك.
ولكن اعلم يا دولة الرئيس أن أولوياتنا وتطلعاتنا قد تبدلت منذ استشهادك.
انتقلنا من حب الحياة إلى ممانعتها، ومن الإعمار إلى الخراب، ومن الرفاه إلى الجوع، ومن الاستقرار والطمأنينة إلى اللاأمن واللااستقرار، ومن فوق الزنار إلى ما هو تحته، وها نحن نركب قطارا افتراضيا ولكن ليس إلى لبنان الجنة بل إلى جحيمه.
دولة الرئيس لا تقلق على الإرث فرغم تبذير المبذرين يبقى الكثير مما صرفته على الفقراء والمساكين، وابناء السبيل، وبعضا ممن علمتهم او أنفقت عليهم، فهي تنمو لديهم.
اما الإنجازات كالطرقات والمنشآت والمرافق التي أشدتها، فارتأى مسؤولونا أننا لا نليق بها، فها هم يسعون للتخلص منها، وإزالة معالمها وكل ما يشير إليها. نعم يرون ألا موجب للحفاظ عليها ولا لصيانتها بل كانوا شهودا على تخريبها.
واطمئن لأنهم لم يسعوا إلى منافستك، إذ أؤكد لك أنه لم يبذل أي جهد في كل ما يندرج ضمن خانة الإعمار أو إعادة البناء، فالطرقات هي هي ولكن ليس على حالها وكذلك الجسور والأنفاق، ولم يتغير شيء البتة سوى أنها من دون صيانة ولا إنارة و….. ولم تعد تزعجنا ضربة شاكوش في ورشة إعمار ولو في ورشة خاصة.
دولة الرئيس كم انت محظوظ، لأن آخر صورة لبيروت في عينيك كانت مُشعة، أما مسؤولينا اليوم فكأني بهم يخشون النور لأنهم يحبون الظلم في الظلمة، فلم تعد الأنوار المشعة في بيروت تبهر عيوننا، ولا حتى في قرانا التي كانت متلالئة، في قرى لبنان من أقصاه إلى أقصاه. وابلغك أيضا أننا لم نعد ننزعج من أهازيج المشجعين في مدرجات المنشآت الرياضية، إذ لم يسمح بإقامة أيَّة مباريات او تمارين رياضيَّة فيها، لا إزعاج منها، ها هي ساكنة مقفرة خاوية.
ولا تقلق على عمال المحال التجاريَّة أو على العاملين في المقاهي أو في دور السينما والمسارح الفنية، لقد أمسوا بمنأى عن تفاهات الزبائن ومتطلباتهم، فهم يلازمون منازلهم جالسين على الأرائك ولكن من دون نرجيلة، إما الفنانون والمطربون فهم في نقاهة خارج الاراضي اللبنانية، والشوارع خالية من المارة، فلا انزعاج من حشود على الأرصفة، ولا زحمة سير على المعبدات، عولج الامر بندرة مادة البنزين، باستثناء من استطاع اليها سبيلا، اما الاهالي فيستأنسون بزقزقات المولدات ليلا، وبأريج مداخينها ليلا ونهار.
وإن أردت أن أحدثك عن المسؤولين فلا حرج، هم مرتاحون وأيها راحة، مرتاحون من التفكير والضمائر، أموالهم هربوها خارج لبنان، وأقفلوا المصارف وتخلصوا من مشاكلها، واستعاضوا عنها بشركات تحويل الاموال السريعة، إنهم يجارون التطور التقني وعصر السرعة. .
لا لا يا دولة الرئيس اطمئن، لم تعد تزعجنا أصوات الطائرات ذهابا إيابا فوق الأحياء، إذ السفر لم يعد ضمن أولوياتنا، سواء أكان بداعي السياحة أم التبضع، لدينا اكتفاء ذاتي من ملابس أثرية، معتقة ممزقة تحاكي الموضة، وها نحن نأكل مما نزرع على أسطح منازلنا، ونشبع مما يقول المسؤولون، وها نحن نعيش ببساطة متناهية، وربما نسعى للعودة إلي أيام القنديل واللشمعة وربما نشتاق إلى راىحة السراج مُستقبلا، الله اعلم.
نعم يا دولة الرئيس الغرب يحسدنا على راحتنا، وهو غير معتاد على التسوُّح في ربوعنا وفنادقنا من دون كهرباء ولا ماء ولا محروقات. أما التوجه شرقا فما أدراك ما التوجه شرقا فاهلا وسهلا، بينيت بالروسي( Привет وهوشغالدنش (Hosgeldiniz) بالتركي، و”خوش أمديد”، بالإيراني وإيدهم على ما تطال وتزيد. أما عن العرب والخليج ماذا أخبرك، نحن تخلينا عنهم ما هم الذين تخلوا عنا، نكاية بهويتنا العربية.
باختصار يا دولة الرئيس اطمئن مسؤولونا بعد أن خلصونا من إيداعاتنا المصرفية المُقلقة، ومن رواتبنا الترفيهية، استعاضوا عنها بمساعدات شهرية إذلالية، الابواب مقفلة لا تقلق، كل ابواب الراحة والأمل مقفاة علينا، والسعادة، كل يوم سعد وسعيدة بوجه بعضهما نقار ونقير من كثرة الشغل.
اطمئن نحن نتنعم بمُعتقل اسمه “لبنان الكبير”
هذه حالتنا في لبنان يا دولة الرئيس طمن بالك وبال كل الشهداء، لاحقينكم، لبنان يحتضر، ادع لنا ربك في ألا يعذبنا في آخرتنا أكثر مما نتعذب في دنيانا، على أمل أن نكون قد تحلينا بصبر نبي الله أيوب، وإن كان عذابه في أن تسلط عليه الدود لينهش جلده، فها نحن قد تسلط علينا من ينهش مُدَّخراتنا ولحمنا وعظامنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا، إلى حد تمني القتل الرحيم، تخلصا من الموت البطيء الذي نعيشه كل يوم، ولكن من دون رحمة.
عذرا يا دولة الرئيس إن أطلت عليك، ولكن اغفر لي… المنجزات كثيرة….