رفضًا لأدبيات الحرب وكل مظاهرها | بقلم العميد عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مما لا شك فيه أن حادثة يوم الرابع عشر من تشرين الأول الجاري والتي سقط فيها 6 ضحايا وما يقارب العشرين مصابًا وتسببت بأضرار ماديَّة تناهز كلفة عملية إصلاح وترميم ما خربته مئات آلاف من الدولارت، أما أضرارها المعنوية فهي مدمرة للبلد، وربما هي في الواقع مستعصية عن كل محاولات الإصلاح والترقيع أو الرتي، لأنها أحدثت صدعًا عميقًا بين الأخوة المتجاورين في منطقتي الشياح وعين الرمانة، وربما ما أحدثته على المستوى السياسي أقرب إلى فالق زلزالي الطابع على امتداد الوطن، لأنه أعاد إلى الأذهان لدى عامة الناس مفردات و مظاهر الحرب الأهلية المقيتة، والتي لا تزال ماثلة في ذهن كل من عايشها، وتنكأ جراح كل من أصيب فيها بالمباشر لفقده حبيبًا أو قريبًا أو صديقًا أو جارًا محبًا كما في ذهن كل شهد أو سمع بتصفيات عشوائية ومجازر طاولت الأبرياء. وها هي لغة الحرب إياها تفجع عائلات الضحايا وتترك أمهات ثكلى.
إنها الحرب يا سادة، ذكراها أليمة وغير محببة بكل المقاييس، يمقتها ويشمئز من استعادة صورها كل صاحب حس وطني وضمير حي. والعودة إلى أدبياتها في العمل السياسي، سواء جاء على مستوى الشارع ومناصري الأحزاب أم مثل في خطابات ومواقف بعض السياسيين، هو أمر مرفوض أيضًا، ويتحمل تبعاته المسؤولون الذين أضحى من واجبهم التنبه إلى خطورَةِ الوَضعِ الذي أوصلونا إليه بنتيجةِ المُماحَكاتِ والمُناكَفاتِ السِّياسِيَّةِ التي لم نجنِ منها سوى المَزيدِ من المَصائبِ والويلاتِ والتي لم يعد بمُستطاعِ الشَّعبِ اللبناني تَحمُّلَ أوزرارَها. إن رفضنا لأدبيات الخرب لَهو تَعبيرٌ صارِخٌ عن رفضنا وشَجْبِنا لاستعادةِ مُفرداتِ وسلوكيَّاتِ الحَربِ الأهلِيَّة، ولكُلِّ مُحاولاتِ زج البلدِ في أتونها مُجَدَّدا.
وعليه نعبر عن موقفنا الرافض لتلك المحاولات بجملة من اللاءات التي تنبع من مشاعرنا الإنسانية والوطنية الصادقة، ان لا للعَودَةِ إلى قَرعِ طُبولِ الحرب الأهلِيَّةِ أو لأيِّ شَكلٍ من أشكالِ التَّقاتُلِ الدَّاخِلي، لا للعَودَةِ إلى الخِطاباتِ والشِّعاراتِ والمواقفِ الفِئويَّةِ، لا للمَظاهِرِ المُسلَّحَةِ، لا لظاهِرَةِ الأسلِحَةِ الفَردِيَّة المُتفلِّتة، لا لإثارَةَ التَّفرِقَةِ بين مُختلِفِ مُكوِّناتِ الشَّعبِ اللبناني، لا لدَعواتٍ التَّقسيمِ والفِرقَة، أو التَّمايزٍ الطائفي أو المذهبي، لا للتَّصرُّفاتِ الهَمجِيَّةِ الغَوغائيَّةِ تِجاهَ بَعضِنا البَعض، لا للتَّعدِّياتٍ وأعمالِ التَّخريبٍ والتَّكسيرٍ التي تطالُ الأملاكِ العامَّةِ أو المُمتلكاتِ الخاصَّة.لا لإقحامِ أُمورِ الدِّينِ في إدارَةِ شُؤونِ الدَّولَة، لا للُغَةِ العُنفِ وكُلِّ أساليبِ التَرويعِ أو الوَعيدِ أو الغَدرِ او القنص أو الاغتيالِ، لا للتَّهويلِ بالحَربِ أو الاحتكامِ إلى السِّلاح، لا لحَملاتِ التَّحريضِ أو التَّكفيرِ أو التَّخوين أو التَّهديد، لا للاستِقواءِ أو الاستِعلاءِ على باقي المُكوِّناتِ الوَطنِيَّة، لا لاستِغلالِ الأُمورِ الدِّينِيَّةِ والمُناسَباتِ الطَّائفِيَّةِ أو المَذهَبِيَّةِ أو الشَّعاراتِ الخاصَّةِ بها لمَآرِبَ سياسيَّة، لا للتَّطاولِ على أيٍّ من المُقدَّساتِ أو الرُّموزِ الدِّينِيَّة، وأخيرًا لا وألف لا للتَّعدي على الأبرياءِ وإراقَةِ المَزيد من الدِّماء النَّقِيَّة.
نعم وألفُ نعمٍ لكُلِّ ما يُرسِّخُ مُقَوِّماتِ السِّلمِ الأهلي والانصِهار الوَطَني، وإرساءِ مَعاييرِ المُواطَنَةِ الحِقَّةِ القائمَةِ على الشَّفافِيَّةِ والمُساواةِ في الحُقوقِ والواجِباتِ، وتَمكينِ المُواطِنينَ من المُشارَكَةِ الفِعلِيَّةِ في الحَياةِ السِّياسِيَّة.
وليس بوسعنا كمواطنين سوى التَّوجَّهُ إلى المَسؤولينَ كُلِّ المَسؤولين بالقَول: “لقد ضِقنا ذَرعًا بمُهاتَراتِكُم السِّياسِيَّة، لأنكُم أنتُم من زَعزَع ويُزعزِعُ مُقوِّماتِ الوِحدَةِ الوَطنِيَّة، وأنتم من قَوَّضَ ويُقوِّضُ مُرتَكزاتِ السِّلمِ الأهلي، وأنتُم من يَتحَمَّلُ كُلَّ أوزارِ المِحَنِ التي أقحَمتُم البلدَ فيها، ونرفُضُ رَفضًا قاطِعًا زجَّكم البلد بحَربٍ أهليَّةٍ عَبَثِيَّة.
نعم، أنتم من أمعَنَ في تَعطيلَ وشَّلِّ المؤسَّساتِ الدُّستورِيَّة، ودَمَّرَ بُنى الاقتِصادِ الوَطَني، وأفسَدَ النِّظامَ المَصرِفي، وتَسبَّبَ بانهِيارِ النِّظامِ النَّقدي في لبنان، وتقويضِ القيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعِملَةِ الوَطَنِيَّة، وتردِّي نوعِيَّةِ الخَدَماتِ الصِّحِّيَّة، والاجتِماعِيَّة، وتخلُّفِ النِّظامِ التَّعليمي في لبنان، وتَدني مُستَوى الشَّهاداتِ الرَّسمِيَّة، وتَفشي ظاهِرَةِ الفَسادِ في مُختلِفِ إداراتِ الدَّولَةِ ومُؤسَّساتِها.
باختصار، إننا كشعب مقهور لمُجمِعونَ على أنَّكُم من ينبغي تَحَميلُهُ مَسؤوليَّةَ الانهيارِ الذي شَهِدُهُ الوَطَن، وعليكمُ تُلقى تَبِعاتِ كُلِّ المآسي التي يُكابِدُها الشَّعبُ اللبناني، وتأوُّهاتِ كُلِّ مَريضٍ لا يَلقى العِلاجَ اللَّازِمِ أو يَعجزُ عن تأمينِ دوائه، ومناجاةِ كُلِّ مُحتاجٍ لا يَستطيعُ تأمينَ قوتَ عِيَالِه.
ألستُم أوَّلَ منساهَمَ في انهيارِ القطاعِ المَصْرفي بتَهريبِكم لملايينِ الدُّولاراتِ التي جَمعتوها من تعبِ الفُقراءِ، وها أنتم تَقِفونَ مَوقِفَ المُتَفَرِّجِ من مُعاناة الشَّعْبِ الذي يَتخبَّطُ في أزَماتٍ مَعيشيَّةٍ خانِقَة.
وبدلًا من الإقرار بفَشلِكم والتَّنحي جانبًا، تطرَحونَ أنفُسَكُم كمُنقِذينَ إصلاحيين، وعوضًا عن التَّصَدِّي للأزماتِ الخانِقَةِ بمَنهَجِيَّاتٍ عِلمِيَّةٍ، تَقومُ على استِنهاضِ الطَّاقاتِ البَشريَّةِ والبناءِ على الثَّرواتِ الطَّبيعِيَّةِ الوَطنِيَّة، وترشيدِ استِغلالِ ما هو مُتاحٌ منها، تكتفون باستِساغَتِكُم لمَنطِقَ التَّسكُّعِ واستِجداء المُساعَدات، بدلًا من المُبادَرَةِ إلى إطلاقِ ورشَةِ إصلاحٍ حَقيقيَّةٍ شامِلَة.
ألم يحن الأوانُ بعد كي تَعوا أن النُّهوضَ بلُبنانَ يَحتاجُ لورشَةِ إصلاحٍ شامِلَةٍ، تبدأ بإصلاحٍ سِياسِي، يَقومُ على إقرارِ تَعديلاتٍ جَوهَرِيَّةٍ على بعضِ النُّصوصِ الدُّستورِيَّة المعوِّقةِ والمُعوَّقَة، وبما يَتَوافَقُ مع روحِيَّةِ وثيقَةِ الوِفاقِ الوَطَني، وتَبني قانونٍ عَصريٍّ لمُكافَحَةِ الفَسادِ تُقنُّنُ فيه النًّوصُ التي تُعنى بمكافَحَةِ مختلفِ ظَواهِرهِ بما في ذلك إساءةُ استِعمالِ السُّلطَةِ والإثراءِ غيرِ المَشروع.
ألم يتبيَّن لكم بعد أن ثمَّةَ خَلَلٌ جَوهريُّ يكمُنُ في مُعظَمَ النُّصوصِ الدُّستورِيَّةِ والقانونِيَّةِ العاديَّةِ التي يُعيبها الجُمودُ والقُصورُ عن مَجاراةِ التَّقدُّمِ والتَّطور، وبعضُها حَمَّالُ أوجُهٍ يُتيحُ المَجالَ لتَبَني تَفسيراتٍ مًتباينَةٍ وغُبَّ الطَّلب. وأنَّ أقلَّ الواجِبِ يتمثَّلُ في إطلاقَ ورَشَةٍ لتَحديثها تلافيًا لأي خَلْطٍ أو التِباسٍ في مَدلولاتِها وتَحريفٍ مقاصدِ المُشترِع منها.
إن ما آلت إليه الأمورُ في لبنان يَستدعي تَدَخُّلاتٍ مُلِحَّةٍ وعاجِلَةٍ، تُتَرجَمُ بمُبادراتٍ جَريئةٍ ومدروسةٍ تَستهدِفُ التَّخفيفَ من مُعاناةِ المواطنين، والسَّعيِ لإحياءِ مًختلِفِ القِطاعاتِ الاقتِصادِيَّةِ الأساسِيَّةِ، والعملِ بموازاةِ ذلك على استِعادَةِ أملاكِ الدَّولَةِ البَحرِيَّةِ والبَرِّيَّةِ وكافَّةِ المَشاعاتِ وإزالَةِ التَّعدِّياتِ عنها، بالإضافةِ إلى استِعادَةِ الأموالِ العامَّةِ المُختلَسَة أو التي بُدِّدت، والسَّعي الجادِّ لضمانِ مُستلزماتِ الرِّعايَةٍ الصِّحِّيَّةٍ لكافَّةِ المواطنين، وتوفيرِ المَزيدِ من فُرَصِ العَمَلِ للحَدِّ من هِجرَةِ الشَّباب، وإعادَةِ هَيكلَةِ الإداراتِ والمؤسَّساتِ العامَّة، والتَّحوُّلِ نحو استِغلالِ الطَّاقاتِ النَّظيفَةِ المُتجدِّدة، واحترامِ التَّوازنِ البيئي، والحد من التَّلوث.
ونَخلُصُ للتأكيدِ على أننا لا نُرجي الخَيرَ فيكم، لذا إنَّكُم مُطالَبون بالتَّخلي عن مَسؤوليَّاتِكُم، وحَبَّذا لو تَعتزلون العَمَلَ السِّياسي، فتَرتاحون وتُريحون.