سيزيف لبنان سيغلُبُ الصخرة | بقلم هنري زغيب
في الميثولوجيا اليونانية: عندما قرَّر الآلهةُ مصيرَ البشر، كان هادِس (إِله الجحيم أَو العالَم السُفلي أَو عالَم الـمَائِتِين) يعاني من تَمَرُّد سيزيف لأَنه عصى أَوامرَه، فعاقَبَهُ بأَن يَدفَعَ صخرةً ثقيلةً من أَسفل السهْل في الجحيم إِلى قمَّة الجبل، وقُبَيْل أَن يبلُغها تُفْلتُ منه وتتدَحرج نزولًا إِلى السهْل، فيعودَ يدفعُها مجدَّدًا إِلى القمة لتَتَدَحرج من جديد.. هكذا يتكرَّرُ العمل اليائس ذاتُهُ في عقوبة شاقَّة أَبدية لا تنتهي.. ولم يكُن سيزيف يتذمَّر من ذلك لأَنه ثائرٌ متمرِّدٌ عنيدٌ في قناعاته لا ينكسر، ولا يُذَلّ معتذِرًا أَو يائسًا أَو طائعًا.
هذه الأُسطورة ذكَرَها هوميروس في ملحمته “الأُوديسيه” (النشيد 11-المقطع 593)، وتناولَها أَلبر كامو سنة 1942 في كتابه الفلسفي “أُسطورة سيزيف” (180 صفحة) مثْبتًا فيه عبثَ البحث عن معنى الإِنسان في عالَم خالٍ من القيَم.. و”سيزيف” كامو يجسِّد فكرة التكرار الـمُمِلّ الـمُتشابه الرتيب بدون نهاية في حياة الفرد، لذا يَرفُضه ويتمرَّد على بلادة الموروث الدينيّ والدنيويّ.
سيزيف؟؟ نعم.. وهكذا لبنان: منذ زمن بعيد وهو محاصر بمحيطٍ يحسُدُه لتأَلُّقه وإِشعاعه وعبقرية أَبنائِه على أَرضهم وفي مَهَاجرهم، فيعاقِبُ منارتَه بالعتمة، وأَمْنَه بالحروب والثورات، وازدهارَه بالإِفقار والأَزمات، وأَمانَه بالأَخطار من كل نوع، حتى يقع شعبه في البؤْس واليأْس والهجرة والإِحباط والتهجير والتشلُّع والتشرذُم والخوف والحرمان والفقْر وسوء الحال وسواد المستقبل، فلا تمر فترة يبدأُ فيها الرخاء والأَمان والاستقرار حتى تقع أَحداثٌ تُعيدُه إِلى البؤْس واليأْس ليعودَ بعدها فينهضَ من جديد، ثم يعود الخطر يهاجمه من جديد.. هكذا، منذ عقود مريرة قاهرة وحشية، و”سيزيف” لبنان يعيش عقوبة البدء من جديد بعد التعثُّر ثم يعود فينهض ثم يتعثَّر من جديد… في دورات زمنية متعاقبة العقوبة والرتابة وفقدان الأَمل.
ويزيد من سُقُوطه في هذه العقوبة: نجاحُ أَعدائه وخصومه في استدراج قسم من شعبه إِلى العمالة ضدَّه، وبلوى قدَره بسياسيين من أَهله يتماكرون ويَتَثَعلبون ويتذَاءَبون ويستأْثرون بالسُلطة، وهُم طُغمةُ أَجداد ينقُلون الحُكْمَ توريثًا إِلى أَبنائهم وأَحفادهم فيتعمَّم الفساد، وتَتَسَرطَن السلطة، وتنكسر الدولة، ويظلُّون حرباويين حاكمين متحكِّمين برقاب الشعب.. وما زال قسمٌ غبيٌّ من هذا الشعب يُعيد انتخابَ أُولئك المتحكِّمين يتناسلون فاسدًا إِلى فاسد، ويستمر لبنان يَرفع الصخرة إِلى الأَمان لتعودَ فتتدحرجَ إِلى جحيم الفساد، ويعودَ لبنان إِلى البؤْس واليأْس في دورات جهنمية متعاقبة متتالية منذ سنوات وعقود وعهود تتكرَّر على الأَغناميين الببَّغاويين من شعبه، كي لا يتنفس الراحةَ ويبقى غارقًا مختنقًا بـ”آزوت” اليأْس.
غير أَن “سيزيف” لبنان لن يَيْأَس.. وسيبقى يناضل ضدَّ جلَّاديه، ويقاوم ضدَّ الخوَنة في سياسييه، ويتمرَّد على قدَره الظالم، ويثور على مصيره الـمُجحف حتى يطرد ساستَه المشؤْومين ويأْتي بأَنقياء (مقيمين، ومهاجرين بانتظار الفرصة المؤَاتية) ينقذُونه من البؤْس ويعيدون السلطة إِلى صلاحها، والدولة إِلى قيامتها، والوطن إِلى تأَلُّقه، فتعود ثقة العالم به ويقتنع بأَنَّ لبنان الحقيقي هو هذا الذي يتولَّى حكمَهُ مخْلصون جادُّون أَوفياء، يحكُمونه بمنطق المواطَنة لا بالوراثة السياسية ولا بحكْم الموزاييك الطائفي والمذهبي، في عَلْمانية حقيقية تحترم الأَديان في مناسكها لا في مقاعد الحكم، فينفتح زمَن المواهب لا المذاهب، ويترسَّخ الانتماء إِلى الوطن لا إِلى الدولة وأَهلها ولا إِلى السلطة وزعمائها، ويتكوَّنُ جيلُ مواطنين يؤَدُّون الولاء للبنان لا كرعايا لدى سياسييه، فلا تعود في لبنان سلطة معطوبة ولا دولة مغلوبة، بل قرار موحَّد في نظام موحَّد يسُوسه دستور يقف الجميع سواسيةً أَمامه باحترام لا بوُجهات نظر.
طوباويٌّ ما أَقول؟ مش صحيح.. سيتمرَّد “سيزيف” لبنان يومًا على جلَّاديه، وسيغلُب الصخرةَ ويُثبِّتها أَخيرًا على القمة.
ولنا رمز راسخ في زهرة تنبُت من زفت الطرقات أَو من حجارة الحفافي، لنعي أَنْ لا مستحيلَ في بناء البلاد حين تهبُها الحياةُ مؤْمنين بها يأْتون من الغد الأَبيض النقيّ، يحلمون به مُشْرقًا فيُشْرقُون به على شَعب لبنان ومصيره الساطع.
نشر المقال في “النهار” أولاً.