ازمة لبنانالاحدث

عتْمةُ السُلطة أَمس فجْرُ الدولة غدًا | بقلم هنري زغيب

عشراتِ النصوص كتبتُ في السنوات الأَخيرة ساخطًا، كمُعظَم شعبنا، على تَلَكُّؤ الدولة عن أَن تكون دولةً بسبب سُلطة فيها عاجِزة أَو مُعَجَّزة، وردَّدتُ غيرَ مرةٍ تقسيميَ الثلاثيَّ طبقاتِ الوطن والدولة والسلطة، مُذَكِّرًا بأَن السُفلى هي طبقةُ السُلطة، والوُسْطى طبقةُ الدولة، والعُليا طبقةُ الوطن. وقلتُ إِن السلطةَ إِن كانت فاسدةً أَفسَدَت الدولة، وإِن صالحةً صلُحَت الدولة، لكنَّ كلتَيهما متَغيِّرةٌ أَشخاصًا، زائلةٌ تاريخًا، ووحدَه الوطنُ ثابتٌ بأَعلامه، خالدٌ بتراثه، لا يتأَثَّر بسْلطةٍ متغيِّرة الأَشخاص، ولا بدولةٍ تتبدَّلُ غالبًا بتغيُّر أَشخاص السُلطة.

أَقول هذا، وأَرفع الشك َّعن كلاميَ السابق، بعد الذي سمعتُهُ في خطاب القَسَم يومَ رئيسُ البلاد العمادجوزف عون تَكرَّس رئيسًا، ورئيسُ الحكومة الدكتور نوَّاف سلام أَعلن رؤْيتَه للحُكْم، فشعرْتُ أَنَّ عتْمة السُلطة الْـخَنقَتْنا سنواتٍ مالحةً حامضةً مريرة، ستنقشع عن سمانا، وأَنَّ فجرًا جديدًا سيُطلُّ على لبنان الوطن والدولة والسُلطة معًا.

تُراني أُبالغ في التفاؤُل؟ يقينيَ أَنْ لا. فما ورَدَ في خطاب القسَم لا يقوله مَن يشكُّ في قُدرته على تنفيذه. وأَبعدُ من كلمات القسَم: جَزمٌ فيه لم نَعْتْدْهُ قبلًا في خُطَبٍ رئاسيةٍ كانت إِنشائية بليدة مكرَّرة تقول ما لا تفعل، وإِن فعَلَت فأَقلُّ مما به وعَدَت.

هذه المرة سمعْنا كلامًا ذا هيبة وحزم: “نريد دولةً تلتزم بالكامل مسؤُوليةَ أَمن البلاد، وتحمي مواطنيها، وتعبِّئ الدُوَل لحماية لبنان”. وسمعْنا: “تلتزم الحكومة اتخاذَ الإِجراءات كافةً لتحرير جميع الأَراضي اللبنانية من الاحتلال الإِسرائيلي بقِواها الذاتية حصرًا، وتعمَل على تنفيذ ما ورَدَ في خطاب القسَم حول واجب الدولة في احتكار حمْل السلاح”… وسمعْنا: “نريد دولة تملك قرار الحرب والسلْم، جيشُها ذو عقيدة قتالية دفاعية، يَحمي الشعب ويَخوض أَيَّ حرب وَفْقًا لأَحكام الدستور”… وسمعنا: “نريد دولةً تعتمد سياسةً خارجية تعمل على تحييد لبنان عن صراعات المحاور فيَستعيد موقعَه الدُوَلي ورصيدَه العربي، وتعمل لعدم استعمال لبنان منصةً للتهجم على الدول العربية الشقيقة والدول الصديقة”. وسمعْنا: “لا خلاصَ لنا خارجَ حضن دولتنا، ولا سبيل لجعل الخارج يحترمها إِنْ لم نلتفَّ جميعُنا في كنفها، وإن لم ننضوِ جميعُنا في خدمتها، وإِن لم نباشر جميعُنا في إِصلاحها”. وسمعنا: “يحدونا الأَمل بأَن نعملَ معًا في سبيل عقْد اجتماعي جديد بين دولةٍ مُهابة ومجتمعٍ خلَّاق، فنكونَ على مستوى من سَبَقَنا من بُناة الكيان، ونكونَ على مستوى تطلُّعات شاباتنا وشباننا، فنُقْنعَهُم بأَنَّ لهم مستقبلًا ممكنًا في وطنهم لا في بلاد الهجْرة فقط، فنستعيدَ مكانتنا الكريمة بين الأُمم”.

كل هذا وسواه الكثيرُ المطَمْئِن سمعناه في خطاب القسَم. وفي خطاب رئيس الحكومة كلامٌ مماثلٌ شبيهٌ قوي عازم حريص، لا إِنشاءَ مجانيًّا فيه بل نبرةُ قاضٍ حازمٍ يعلن قرار محكمة الضمير بتبرئة الوطن من خطايا خائنيه، وبإِعلانه حرًّا من قبضة جلَّاديه، وبإِعادته منارةً لشعبه وفي محيطه، وحيال دول العالم التي كانت ترى إِلى لبنان لؤْلؤَة هذا الشرق.

“ننضوي في خدمة الدولة”، جاء في خطاب الرئيس؟ هذا هو المفتاح للدخول إِليها بعدما أَركانها منذ عقودٍ جعلوا الدولة في خدمتهم فـ”سلَّعوها” لمحاسيبهم وأَزلامهم. منذ اليوم نحن في عَهد رئيس جمهورية وفي عُهدة رئيس حكومة تلاقيا عَهدًا وعُهدةً على الإِنقاذ. فلْنُخاصرْهُما ولْنُكاتفْهما ولْنَمْنَحْهُما إِيماننا, ولْيهنَأْ بهما قلبُنا، ولْتبقَ يدُنا على قلْبنا من غَدر يوضاسيين في بستان الزيتون.

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى