ازمة لبنان

على أبواب 17 تشرين: حكومةٌ واحدة مُمكِنة في بيروت بقلم البروفسور بيار الخوري

إن الناظِرَ إلى الوضعِ اللبناني اليوم لا بدّ له من تشبيهه بسفينةٍ تَغرَق وجميعُ مَن عليها يضع اللوم على الآخر قائلاً: أنتَ مَن أخطأ وأنا لا أتحمّل المسؤولية!

على بُعدِ أيامٍ من الذكرى الأولى لانتفاضة السابع عشر من تشرين الأوّل (أكتوبر)، يغدو السؤال المنطقي الذي ينبغي أن يُطرَح: ماذا فَعَلَت الطبقة السياسية خلال هذا العام؟ وما مدى قوة جرس الإنذار الذي شكّلته لحظة 17 تشرين وما تلاها من أحداث وصولاً حتى اليوم؟.

مهما كان تواضع الإنجاز الذي حقّقته هذه االلحظة، فهي شكّلت لحظة رفضٍ وطنيٍّ عارمٍ للإستخفاف بعقول الناس، والإستهتار بمستقبل الشباب الذين أيقنوا مدى فساد الطبقة السياسية وفشلها في إنتاج استراتيجية فاعلة ومُستدامة للخروج من الأزمة الإقتصادية والتنمَوية.

ليس من البراءة بمكان تحميل الإنتفاضة اللبنانية وزر الموقع الجيوستراتيجي الذي يقع فيه لبنان، والحديث عن الثورة التي نظّمتها أجهزة الإستخبارات العالمية لا يقلّ خبثاً عن تعاطف الدول الكبرى مع مآسي الشعب اللبناني. المنطقان يخدمان بعضهما البعض.

من المفهوم والمُحتَمَل أن تكون أجهزة بعض الدول الكبرى، كما الإقليمية، حاولت استغلال هذه الإنتفاضة، ولكن من المعلوم أيضاً أنّ أجهزةً وقوى محلّية (من ضَفّتَي تَحالفَي آذار) قد دخلت على خطّها وحاولت استغلالها.

وفي كلتا الحالتين لا ينفع لوم اللبنانيين الذين لا خبرة لديهم في الثورات. فتَشَكُّل الوعي التغييري هو عملية مُعقّدة تحتاج إلى سنين طويلة، وهي مسألة محفوفة بالمخاطر، وقد تؤدي في بعض مراحلها الى عكس المرجو منها.

الأساس أن لحظة 17 تشرين قد عبّرت عن حاجة اللبنانيين الماسّة والمُلِحّة إلى التغيير، وعن عدم القدرة على الإستمرار في النمط عينه الذي تُدار به البلاد، فهل وصلت هذه الرسالة؟ ومَن لا يزال مُقتَنعاً أو مُصَدِّقاً أن 17 تشرين هي لحظة عابرة فليتمعّن بكون 77% من الشباب اللبناني لم يَعُد يجد مُستقبلاً له سوى بالسفر (وهي أعلى نسبة رغبة بالهجرة سُجِّلت في الدول العربية بما فيها سوريا وليبيا واليمن).

سلوك الطبقة السياسية منذ 17 تشرين إلى اليوم هو سلوكُ نُكرانٍ ينظر إلى ما حدث على أنه إما مُعاقبة سياسية مُرتَبِطة بالصراع الإقليمي–الدولي، وإما فُرصة للإنقضاض على الخصوم في الطبقة نفسها. مرّت سنة كاملة لم نتقدّم فيها قيد أنملة واحدة في مقاربة عقلانية للتعامل مع المشاكل التنموية والإقتصادية.

لقد شكّلت حكومة الرئيس حسّان دياب فرصةً من أجل إعادة الإثبات بأنّ من المُمكن أخذ البلاد إلى مرحلةٍ من الإصلاح، ولو المُتدرّج، وإخراجها من القعر الذي نحن فيه. واستطاعت هذه الحكومة أن تصل الى مُقاربةٍ معقولة في توزيع أكلاف الأزمة بالإتفاق مع صندوق النقد الدولي.

لو أُعطيت هذه الحكومة الفرصة ودعمناها وشرعنا في التفاوض مع المجتمع الدولي من خلال الصندوق لكنّا اليوم أقل ضعفاً ( ولا أقول أكثر قوة).

ما طلبه الصندوق في ذلك الوقت كان يتلخّص في ثلاث نقاط رئيسة: أولاً، الإتفاق على الأرقام وتوحيدها، وثانياً، السيطرة على رأس المال أو ال”كابيتال كونترول” غير الإنتقائي والصارم، وثالثاً، توحيد اسعار الصرف على طريق تحريرها.

كلٌّ على طريقته وكلٌّ لأسبابه ومَصالحه، ولأنّ أحد الشروط الثلاثة أو أكثر لم يُناسبه، إنقضّ الجميع على مشروع الإتفاق مع صندوق النقد الدولي. دعني أُشيرُ هنا إلى ما أشرتُ إليه دائماً من أن الذهاب الى صندوق النقد الدولي ليس نزهة، وأن المُجتمع الدولي الغربي يُسيطر على الصندوق، وأن الولايات المتحده هي الفاعل الأساس في هذا الصندوق كما في معظم المؤسسات المالية الدولية الأُخرى.

لكن صندوق النقد الدولي بات راهناً بالنسبة إلى لبنان قَدَراً لا يُمكن التهرّب منه. وكُلّما طالَ أمَدُ الأزمة، باتت قدرتنا على تعديل شروط التفاوض على البرامج الهيكلية للصندوق أقل … فأقل. الأكيد اليوم ان ذهابنا نحو رفع الدعم بسبب نضوب الإحتياطات الحرّة للبنك المركزي هو نقطة ضعف لبنانية تُضاف إلى رصيد القوة الذي يتمتع به صندوق النقد.

اليوم لبنان على أبواب ذكرى 17 تشرين، وأيضاً على أبواب استشاراتٍ لتشكيلِ حكومة جديدة. سواء نجحت هذه الإستشارات في تسمية الرئيس العتيد للحكومة أم لم تنجح، وسواء نجح الرئيس المُكلَّف في تشكيل الحكومة وحاز ثقة المجلس النيابي أم لم ينجح، الأكيد في كل الحالات (قصر الزمن أم طال) أن أي حكومة مُقبلة في بيروت لن تكون سوى حكومة صندوق النقد الدولي، والمُبضع الذي يحمله هذا الصندوق يُصبح أكثر إيلاماً كلّما تقدّمنا في الزمن أكثر.

الواقع أن المسائل الوطنية تبدو اليوم أكثر ترابطاً، من ترسيم الحدود، إلى التنقيب عن النفط والغاز، إلى استخراج هذه المواد واحتمال تسنيد مداخيلها مُسبَقاً لسداد الديون الخارجية وإعادة الحياة الى شرايين الإقتصاد، وذلك لن يحصل من دون دور الناظم المالي لصندوق النقد الدولي من خلال حكومة تُعبّد له الطريق لإصدار براءة ذمّة للبنان أمام الدول والمستثمرين والدائنين.

على أبواب 17 تشرين يتحضّر البلد ويستعِدّ لمواجهة جمهورٍ “ثوري” جديد لا يُشبه أبناء عائلات الطبقة الوسطى الذين صنعوا اللحظة التشرينية، بل يتشكّل من كلّ ألوان قاع المجتمع، ورُغم أنكم ستكونون أقلّ إحراجاً في “التعامل” معه، تذكّروا أن ثورة قاع المجتمع هي أيضاً فرصة استثنائية للدول التي تريد رؤوسكم.
رابط المقال اضغط هنا

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى