ازمة لبنانالاحدث

عن حَربٍ لا يُمكِنُ أن تَستَمرَّ أو تَنتَهيَ في مُنتَصَفِ الطريق | بقلم البروفسور بيار الخوري

في ضَوءِ التطوّرات الأخيرة التي طرأت على حَربِ المُشاغَلة والإسنادِ في جنوب لبنان، يبدو أنَّ تبادُلَ إطلاق النار والصواريخ والغارات العميق الذي جرى صباح الأحد الفائت بين “حزب الله” وإسرائيل قد استبعَدَ احتماليةَ اندلاعِ حَربٍ شاملة، حيث اكتفى “حزب الله” بما حصل واستوعَبَت إسرائيل الضربة. هذا الوَضعُ قد يكونُ مُقدّمةً لخَفضِ التصعيدِ الذي أصبحَ بلا جدوى عسكرية أو سياسية. ومع ذلك، يظلُّ هناكَ مأزقٌ حقيقي لِمَن يرغبُ في استمرارِ الحرب، إذ أنَّ السؤال الأساس اليوم هو: كيف يُمكِنُ أن يُوضَعَ حَدٌّ لهذه الحرب التي لا يُمكِنُ تصعيدُها أو إنهاؤها في مُنتصَفِ الطريق؟

هذا المأزقُ يرتَبطُ بشكلٍ رئيس بعدمِ وجودِ أُفُقٍ واضِحٍ للحرب. من جهة، يُدرِكُ الطرفان أنَّ الاستمرارَ في التصعيدِ قد يؤدّي إلى نتائج كارثية على المنطقة بأكملها. ومن جهةٍ أُخرى، التراجُعُ من دونِ تحقيقِ أيِّ مكاسب يُعتَبَرُ هزيمةً سياسية وعسكرية، خصوصًا بالنسبةِ إلى إسرائيل التي تُواجِهُ ضغطًا داخليًا ودوليًا كبيرًا لتحقيق نتائج ملموسة.

من الأسبابِ الجوهريةِ التي تُعزّزُ هذا المأزق هو التحوُّلُ في طبيعةِ الحروبِ الحديثة، التي لم تَعُد تعتَمِدُ فقط على القوة العسكرية، بل تشمل أيضًا الحروب الاقتصادية والسياسية والنفسية والإعلامية. إسرائيل تجدُ نفسها في وَضعٍ مُعَقَّد؛ فهي قادرةٌ على شنِّ ضرباتٍ تكتيكية موجِعة، لكنها تجدُ صعوبةً في تحقيقِ أهدافٍ استراتيجية طويلة الأمد. فمثلًا، السعي إلى تحقيقِ مكاسب على حساب مصر في محور فيلادِلفيا أو ممرِّ رفح، أو محاولة تهجير سكان غزة إلى سيناء، كلُّها أهدافٌ تُعَرقلها التعقيدات الإقليمية والدولية. بالإضافة إلى ذلك، يواجه استمرارُ الحرب في غزة، ومحاولة تدمير بُنية حركة “حماس” المسلّحة، مقاومةً شرسة وتضامُنًا إقليميًا غير مُتَوَقَّع، مما يُعَظِّمُ من خسائر إسرائيل الاستراتيجية.

ويبقى محورُ “نيتساريم” (أو مفرق الشهداء)، الممرُّ الذي يفصل مدينة غزة وشمالها عن المنطقة الوسطى وجنوب القطاع، والذي يُمكِنُ أن يكونَ الثمنُ الذي تدفعه إسرائيل مقابل الإفراج عن الرهائن، مثالًا على المأزق الحالي. إنَّ إسرائيل التي ربحت تكتيكيًا من خلال عملياتها العسكرية تجدُ نفسها الآن في موقفٍ استراتيجي أضعف. استمرارُ الحرب، بدلًا من أن يُحقّقَ أهدافها، قد يزيد من خسائرها في المدى الطويل، خصوصًا في ظلِّ الشللِ الذي أصابها نتيجةَ تهديدات “حزب الله”، والتي تسبّبت في إغلاق مطار بن غوريون، بينما مطار بيروت يعمل كالمعتاد. هذه الحالة من الشلل تَعكُسُ المُفارَقة الصارخة بين الطرفَين؛ فإيران لم تتأثّر بالعملياتِ الأخيرة، وسكّان لبنان لم يضطروا إلى فتح الملاجئ كما حدث في تل أبيب، مما يُظهِرُ تفوُّقًا استراتيجيًا ل”محور المقاومة” الذي يدعم “حزب الله”.

المُفاوضاتُ حولَ الصفقة قد تستمرُّ أسابيع أو حتى أشهُرًا، وربما حتى بعد الانتخابات الأميركية المقبلة. في الواقع، تجدُ إسرائيل نفسها في موقفٍ غير مسبوق؛ فهي لا تملكُ مفاتيحَ الحلِّ العسكري أو السياسي لهذه الحرب المفتوحة زمنيًا والمُقفَلة ميدانيًا. هذا العجزُ الإسرائيلي، الذي استمرَّ منذُ حوالي السنة، جعلَ من الضروري أن يأتي الحلُّ من خارج المنطقة، أي من المجتمع الدولي. هذه هي المرة الأولى التي لم تستطع فيها إسرائيل فَرضَ أمرٍ واقع على الجميع، بل أصبحت تُواجِهُ أمرًا واقعًا لا تستطيع تغييره. هذا الوضعُ يَعكُسُ تراجُعًا في القدرة الإسرائيلية على المناورة والتأثير، ويزيد من تعقيدِ الأزمة التي لم تَجِد لها حلًّا حتى الآن…وحتى إشعارٍ آخر…

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى