غابَت الدولة وأَشرَقَ الوطن | بقلم هـنـري زغـيـب
في عادة الدُوَل أَن تحتفل سنويًّا بيومها الوطني في أَبهى ما يمكن أَن يلبسَ “اليوم الوطني” من أُبَّهة وفرح، احتفاءً بهذا “اليوم” المقدَّس رسميًّا وشعبيًّا، فتزوغَ الـمُدُن، وتتزيَّنَ الدوائرُ والمؤَسسات الرسمية، وتنهملَ على المسؤُولين برقياتُ التهنئة والتبريك من كل العالم، مشاركةً في هذه المناسبة التي تعتز بها كلُّ دولة.
هي ذي العادة في جميع دول العالم. لكنَّ دولةَ لبنان هذه السنة كانت خارج الدُوَل وخارج العالم وخارج الذكْر المحلّي وخارج الاهتمام الدولي.. غابت عن الذكرى، عن المناسبة، عن “اليوم الوطني” الذي هو برمزيته أَغلى أَيام السنة.. ولكنْ طالما سائر أَيام الدولة اللبنانية متشابهة في العُقْم والضجَر، في إِضاعة الوقت والفُرَص، في تَرَافُس “فوتبول” المواقف السخيفة، في تبادُل التُهَم التافهة، في تَقاذُف المسؤُوليات المزيَّفة، وفي غسْل المسؤُولين أَيديهم القذِرة بيلاطُسيًّا من دماء شعب لبنان وشهدائه الأَنقياء، فلا عجب أَن تَغيبَ هذه الدولة العاقر عن “اليوم الوطني اللبناني”، وأَن يحتفلَ به شعب لبنان الوطن على أَرضه وفي الـمَهاجر اللبنانية على مدى العالَم.
وفيما كان لبنان عادةً يستقطب تهنئة قادة العالم بيومه الوطني، اقتصر هذا العام على إِضاءة واجهة المتحف الوطني بأَلوان علَم لبنان (بادرة لم يشعر بها أَحد إِلَّا في ذاك الشارع)، وإِرسال مَن يضع أَكاليل بالية على الأَضرحة (بادرة باردة روتينيًا كرُخام القبور)، وعلى احتفال غنائي في قصر الأُونسكو مع أُوركسترا الكونسرفاتوار اللبناني (ببادرة شخصية من رئيسته الدينامية هبة القواس)، وعلى مشاركة “غوغل” ذكرى استقلالنا بصورة العَلَم متحركًا على الصفحة الرئيسة لهذا الموقع العالَمي.
شو كان ممكن ينعَمَل غير هيك؟
ربما لا يمكن أَكثر… وإِني هنا لا أَلوم ما تَـمّ كما تـمّ، بل ما كان يجب أَن يتمَّ لولا هذا الانقباض الفاجع في مسيرة البلاد بسبب مشاحنات السياسيين وتجاذُباتهم وعنادهم وشخصانياتهم وطموحاتهم الرئاسية، وهي الأَسباب التي، نهارَ الاستقلال هذا الأُسبوع، جعلَت لبنان دولة بلا رأْس فأَطاحت رمزيةَ “اليوم الوطني”، فيما المسؤُولون (كم لا تنطبق عليهم قُدسية هذه الكلمة) ما زالوا موغلين في نكْءِ جراح لبنان الاقتصادية والاجتماعية والنفسية بخناجرهم السياسية التي تُكمل تدمير الدولة وتُشوِّه صورة الوطن على أَرضه وفي العالَم، فيشهَد العالم كم سياسيو لبنان أَصغر من قيمته، وأَدنى من مستواه، وأَقل من حجمه الوطني، وتاليًا: يستنتج العالم أَن هذه الطبقة الفاسدة النتنة لا تستحقُّ حُكْم لبنان، وأَكثر: لا تستحق شرف المواطنية اللبنانية.
وما شارك به الشعب عفويًّا في لبنان وفي العالَم، ببهجة قلبية وتعابير فائقة الشعور، كان انتقامًا من الاحتلالات على أَرض لبنان وعلى خناق مسؤُوليه السياسيين، تمامًا كما ابتهج الشعب في 22 تشرين الثاني 1943 انتقامًا من انحسار الانتداب الفرنسي، وكما احتفل شعبنا بالآلاف في ذكرى الاستقلال 2019، فكانت تعابيرُ مواطنينا، هنا وثَــمَّ، بهذا الإِيقاع الزاخم، طالعةً من يأْسهم من غضبهم من قرَفهم من رفضهم كلَّ هذا الطقم البالي الذي تَلْبَسُهُ دولة لبنان ورائحتُه تخنُق الأَنفاس بما فيها من نفتالين الفشل.
وأَنكى الأَنكى: يومَ نصفُ شعب لبنان رفضَ ذاك الطقم السياسي البالي ولم يقترع لأَحد، كان معظم النصف الآخَر يقترع بكل جهلٍ وغباءٍ، ويُعيد أُولئك الفاسدين إِلى مناصب الحكْم فأَوصلَتْنا إِعادة انتخابهم إِلى تدمير الدولة على رؤُوسنا، حتى جاء “يومنا الوطني” بهذا الغياب الجنائزي القاصم، وحتى بتنا نرى إِلى استقلالنا بنظرة نوستالجية: أَيام كان في لبنان رجالُ دولة في خدمة الدولة، لا مثلما سياسيوه اليوم بكل فحش عاهر ضالعون في خصوصياتهم وشخصانياتهم جارِّين ناسهم (ولا أَقول شعب لبنان) جاعلينهم وقودًا في محارقهم التي ستُحرق شعبنا بإِجرامٍ هولاكيّ سّبَّبَ في عيد استقلالنا الغالي أَن تغيبَ دمامةُ الدولة ويشرقَ شعبُ الوطن.
ينشر بالتزامن مع “النهار”