فرنسا تسابق الوقت: هل تنجح حيث فشل الأميركي؟ | بقلم د. محيي الدين الشحيمي
من المتوقع أن تشمل جولة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في الشرق الأوسط بيروت في زيارة هي الثانية له بطلب من الرئيس إيمانويل ماكرون تشمل إسرائيل والمملكة العربية السعودية. مما يطرح سلسلة من الأسئلة تبدأ عن ماهية الدور الذي تلعبه فرنسا في مسار إخراج المنطقة من الحرب؟ ولماذا انطلق حراك عين التينة بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى بيروت؟ هل فرنسا قادرة على اطلاق مبادرة إنقاذ وأين الولايات المتحدة الأميركية من الحراك الفرنسي؟
تنطلق المبادرة الفرنسية في كواليسها من الفجوة المتنامية بين رغبات الولايات المتحدة الأميركية والسلوك الإسرائيلي.
تسعى فرنسا إلى إعادة تحفيز الدبلوماسية الأميركية لأنّها وحدها القادرة على وقف آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية. يتشدّد الموقف الفرنسي في ضرورة عدم الاكتفاء الأميركي باستيعاب الخطوات والتنبيه منها فقط. منتهزة توسعة رقعة الاختلافات بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي، خاصة بعد إعلان أميركا قبل أسبوع أنّ لبنان والكيان الإسرائيلي على بعد خطوة من الاتفاق على وقف إطلاق نار، فيما الذي تبيّن العكس تماماً، وهو أنّهم أقرب إلى الحرب. هي إشارة واضحة إلى التأثير المحدود لأميركا على الكيان الإسرائيلي.
زيارة رئيس الدّبلوماسيّة الفرنسيّة المعنويّة المهمّة
زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى بيروت مؤخراً. لن تكون الأخيرة سوف ستتبعها عدّة زيارات للبنان والمنطقة. ولن تتوقّف إلا عند التوصّل إلى حلّ. تزيد هذه الزيارة الرهان الفرنسي المحفوف بالمخاطر.
تختلف الإدارة الفرنسية في طريقة دبلوماسيّتها عن الإدارة الأميركية. تحاول التفهّم والتفاهم مع وضعية الحزب، وتتعاطف قليلاً. في حين تحتفي الدبلوماسية الأميركية بكلّ ما يحصل مع الحزب. باتت لا تريد قطع الطريق على عمليات الإسرائيلي، بل تفسح المجال أمامه لاستكمال ما يحدث. لكنّها تستفيد من الطريقة الفرنسية وتتبع أفكارها.
تعتمد فرنسا في هذا الإطار نمط “دبلوماسية الكواليس الالتفافية”، دون الوقوع في ثبات الحلول أو إفراغها. تنتهج في ذلك سياسة التطويق الدوائري، مع كلّ فريق على حدة. تستثمرها لكي تنقضّ على التسوية عبر تخفيف التصعيد مستندة على:
– دوليّاً: من تأثير إيران على الحزب، خصوصاً عبر سياسة التنديد الاستيعابية. تغمز من بوّابة الإشارات الإيرانية الدبلوماسية الهادئة والودودة، إضافة إلى تصاريح مسؤولي نظام الملالي. تغتنم ما بقي من الضغط الأميركي على إسرائيل. تشدّد على ضرورة أن تزيد أميركا من جهودها، والاستفادة من بعض المناخات النافعة البينيّة، مع الاستعمال الصحيح للوساطات المساهمة في تغيّر المشهد الحالي.
– محليّاً: تعوّل فرنسا على دور مهمّ وأساسيّ للرئيس نبيه بري. توليه المساحة الكبيرة. هو صاحب القفل والمفتاح. يؤثّر بشكل خاص على الحزب، حيث يملك مفاتيح السلطة التشريعية، الوحيدة التي تتمتّع بكامل الصلاحيات، مع وجود شغور رئاسي، وحكومة تصريف أعمال متهالكة. هو أحد قطبي الثنائية وممثّلها دولياً، والناطق والمحاور باسمها. تنتظر منه المهمّات الصعبة، المنوطة برجال الدولة القلائل. تتركّز مهمّته في إقناع الحزب بضرورة تبنّي المواقف اللبنانية الرسمية، وأن يحصر التناقضات التي تعيق التوصّل إلى أية تسوية. تتفرّع مسؤوليّاته حول الترتيبات المساعدة في خلق البيئة الحاضنة المساهمة في ولادة إجماع وطني لبناني. يبدأ عبر دعوة المجلس النيابي إلى جلسة، وانتخاب رئيس جامع للجمهورية. يحتذي الشروط القانونية المتناسبة للحفاظ على الرسالة الكيانية والمفيدة في إعادة إنتاج السلطة والدور الصحّي المنوط بها.
قلق فرنسيّ
تقلق فرنسا كثيراً من مخطّط التوغّل البرّي الإسرائيلي. تتذكّر عبره المفاعيل التاريخية للاجتياحات الإسرائيلية السابقة، خاصة في عام 1982. يحوّل إسرائيل من جديد إلى كيان غاصب ومحتلّ. تتوجّس من النوايا الإسرائيلية لجهة عمق التوغّل وميقاته. لا تثق في هذا الخصوص بشريكها الأميركي، الذي لا يرى أمامه سوى الأمن الإسرائيلي. لا تريد الإدارة الفرنسية أيّ تغيير في الأرض أو حتى الديمغرافيا والمجتمع في بقعة لبنان الكبير. لا ترغب في العبث بالحدود البرّية الجغرافية الدستورية اللبنانية المحدّدة. ولا تحبّذ تغيير الطبيعة السكانية، التي هندستها مع بريطانيا في عام 1916 عبر اتفاقية “سايكس – بيكو”، وحدّدتها منذ عام 1923 مع اتفاقية “بوليه – نيوكامب”.
تشدّد في تطبيق القرارات الدّوليّة
تشدّد الإدارة الفرنسية على التطبيق الفوري للقرارات الدولية. وأولوية احترام الواقع القانوني واللوجستي للقرار 1701. تعمل الإدارة الفرنسية على قطع الطريق على تنفيذ حكومة الكيان الإسرائيلي نواياها الباطنية، خاصة لجهة إفراغ المنطقة الجنوبية لنهر الليطاني من كلّ شيء على الطريقة الإسرائيلية، الذي يعدّ في حدّ ذاته خرقاً للقرار 1701 والمادّة 8 منه. تضاف إليها ضرورة العمل المقرون على تطبيق المادّة الخامسة من اتفاقية الهدنة 1949 التي تنصّ على أنّ “خطّ الهدنة هو خطّ الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلّة المرسّمة في عام 1923″، حيث نصّت اتفاقية الهدنة 1949 مع الاحتلال أيضاً على تخفيض الوجود ونوعية القوى العسكرية على جانبي الحدود بشكل متوازن. إذ تتخوّف فرنسا من إمكانية اللعب بجغرافية الجنوب اللبناني، وخاصة في منطقة جنوب الليطاني، وهو ما يعكس خطرين محلي داخلي لبناني، وإقليمي دولي.
نشاط فرنسيّ مفيد للجميع
تسابق الإدارة الفرنسية الرئاسية والدبلوماسية، الوقت. عبر ما يسمّى حالياً كواليس الحلول الملتفّة. دخل على الخطّ وزير الخارجية الجديد جان نويل بارو المفوّض رئاسياً، إلى جانب المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان. تنفصل مهمّة المكلّفين الرئاسيّين إلى حدّ التكامل. يعمل الأوّل مع المساعي الدولية من أجل التوصّل إلى تسوية سريعة ووقف الحرب وإطلاق النار. فيما يهندس الثاني فسيفساء الساحة المحلّية اللبنانية اللازمة، في اليوم التالي للحرب، ومدخلها توافقية انتخاب رئيس الجمهورية. تعتمد الإدارة الفرنسية محلياً على حسن نوايا الأفرقاء في لبنان. وتثمّن دولياً الإحاطة المجدية للأزمة اللبنانية مع الإخوة العرب والضغط الأميركي الحقيقي، إن وجد، على الكيان الإسرائيلي.
تشبه هذه الزيارات من حيث الشكل رحلات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وجميع الدبلوماسيين إلى الشرق الأوسط منذ 7 تشرين الأول. تلك التي لم تؤدِّ إلى عصارة إيجابية.
فهل تختلف في المضمون؟ وهل تنجح المساعي الدولية في الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة؟ هل تستطيع فرنسا منع الحرب الشاملة في لبنان؟ يأتي ذلك مع بدء تنفيذ جيش العدوّ الإسرائيلي خطّة العمليات والتوغّل البرّي المحدود، حيث تدور الاشتباكات على الحدود مع عناصر الحزب. فهل يبدّل الميدان في الموازين؟ يترافق ذلك أيضاً مع وجود إدارة ديمقراطية عرجاء، محاصرة في أسلوبها، وضعيفة التأثير والتوقّعات برئاسة بايدن. فهل تنجح فرنسا في ما عجزت عنه أميركا؟ من يعلم؟ الأيام تمضي والسنة خلف الباب.