فلنتفادى الحرب، وإن فُرِضَت فلتَكُن كاريش أم المَعارِك | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
إنَّهُ لأمرٌ مُستحبٌّ بالنِّسبةِ لدولةِ كلبنان، صَغيرَةِ من حيث المَساحةِ وقليلةٌ من حيثُ عدد السُّكَّانِ وضعيفةً اقتصاديَّاً أن تحرَصَ على بناءِ أفضَلِ العلاقاتِ مع مُختلِفِ دُولِ العالمِ وبخاصَّةٍ الدول العُظمى وبالتَّحديدِ الدَّائمَةِ العُضوِيَّةِ في مَجلِسِ الأمنِ، لما لهذا المَجلِسِ من دورٍ هامٍّ في إرساءِ الأمن والسِّلمِ الدَّوليين.
وإن كان الوضعُ الدَّولي يُملي على الدُّولِ الصَّغيرةِ “والتي غالباً ما تكون مُهمَّشةٌ سِياسِيَّاً” أو الضَّعيفةُ بإمكانيَّاتها العَسكريَّةِ والاقتصاديَّةِ أن تسعى في الغالِبِ إلى تَبني الحِيادِ الإيجابي منعاً من انزلاقِها في مَحاوِرَ وأحلافٍ دوليَّةٍ أو إقليميَّةٍ قد تَجرُّ عليها الويلاتِ والمَصائب، وإن كان لبنان محكومٌ بصِراعِهِ مع العَدوِّ الإسرائيلي المُجاوِرِ والذي دأبَ منذُ نشأتِهِ على ارتِكابِ أبشَعِ التَّعدِّياتِ العَسكرِيَّةِ والإرهابيَّةِ، وهو طامعٌ وساعٍ على الدَّوامِ للتَّطاولِ على ثروةِ لبنانَ المائيَّةِ، وها هو اليومَ يسعى لقَرصَنَةِ ثَروَتِهِ البَحرِيَّةِ من الغازِ الطَّبيعي في ما يُسمى بحَقلِ كاريش، وإن كان لا يُخفى على أحدٍ أن هذا الكِيانِ الذي أٌسقِطَ عُنوةً في مِنطَقَةِ الشَّرقِ الأسَطِ كما تسقطُ الشوكةُ في العَينِ لم يكن ليحافظَ على وجودهِ في هذا المحيطُ، غيرِ المتآلِفِ معه لنزعاتِهِ التخريبيَّةِ والتَّدميريَّةِ والتَّوسُّعيَّةِ، لولى الرِّعايَةُ العلنيَّةُ والدَّائمةُ من الولاياتِ المُتَّحِدةِ الأميركيَّةِ الدولةُ الدَّائمَةُ العُضويَّةِ في مَجلِسِ الأمنِ بل الأكثر سَطوةً ونفوذٍ في هذا المجلس.
وإن كان الأصلُ أن يَسعى لبنانُ، باعتبارهِ دولةٍ عُضوٍ ومؤسِّسٍ في هيئةِ الأمم المُتَّحِدَةِ والجامِعَةِ العربيَّةِ، وعلى عداءٍ مع كيانٍ مُجاورٍ طمَّاعٍ ومُشاكسٍ ومُعادٍ، إلى اللُّجوءِ إلى هيئةِ الأممِ المُتَّحِدةِ ومجلِسِ الأمنِ طلباً لحَلِّ نزاعاتِهِ مع هذا العدوِّ أو صوناً لسيادَتِه أو حِفاظاً على ثَرواتِهِ، وأن يَطلُبَ دعمَ أشقَّائهِ العرب عند اللزوم، إلاَّ أن ما يُثيرُ الاستِغرابَ قُبولَ التَّوسُّطِ من قِبلِ دولةٍ الولاياتِ المُتَّحِدةِ غيرِ المضمونِ حيادُها على الأقل في هذا النِّزاعِ، كونها تُجاهِرُ في وقوفِها إلى جانبِ هذا الكيانِ الإسرائيلي القائمَ على الظُّلِمِ والجَورِ على أهلِ الدَّارِ ودُولِ الجِوارِ، كما في حِرصِهاعلى تَفوُّقِهِ عَسكَرِيَّاً على كافَّةِ جِيرانِهِ مُجتمعينَ بتَقديمِ مختلفِ أنواعِ الدَّعِم السِّياسي والعَسكري والمالي وإمدادِهِ بأحدثِ الأسلِحَة!!!
الأمرُ بالنِّسبةِ لنا كما لمُعظَمِ اللبنانيينَ لم يعد يقتصرُ على الاستِهجانِ بل أضحى مُثيراً للقلقِ وعدمِ الإطمئنانِ لتعليقِ المَسؤولين، ومن يمتلكونَ صَلاحِيَةَ الرَّبطِ والحَلِّ في هذا الموضوعِ بالتَّحديد، كبير الأملِ على هذا الوَسيطِ بل ينتظرونَ قُدومَ مندوبهِ بفارِغِ الصَّبرِ لإقناعِ العدو الإسرائيلي لتأخيرِ البدءِ بأعمالِ الحَفرِ في حقلِ كاريشِ المُتنازَعِ عليه (أهو حقٌ خالصٌ لفلسطين المُحتلَّةِ أم مشتركٌ بينها وبين لبنان)، كما امتناعِهم عن تقديمِ أيِّ مُستندٍ أو ما يثبتُ حقَّ لبنان في هذا الحقلِ لمجلِسِ الأمن أو هيئةِ الأمم المُتَّحِدةِ أو لأيَّةِ جهةٍ قضائيَّةٍ دوليَّةٍ مُختًصَّة في الفصلِ بهكذا نزاع (محكمة العدل الدَّوليَّة أو المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة)، كما الإحجامُ عن الطليبِ إلى هيئةِ الأممِ المُتَّحِدةِ القِيامَ بوساطةِ لحلِّ هذا النِّزاعِ باعتبارها مؤسَّسةٌ دوليَّةٌ جامعةٌ وراعيةِ لحسنِ العلاقاتِ بينَ الدُّولِ، خاصَّةً وأنه سبق للمدعو ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة وصرَّح أن الأمم المتحدة مُستعدةٌ للعملِ على المُساعدةِ على حلِّ الخِلافِ ما بين لًبنان وإسرائيلَ بشأنِ حَقل كاريش البَحري.
ويبدو أنه في الوقتِ الذي يمتنعُ لبنان عن طلبِ وساطةِ الأمانةِ العامَّةِ للأممِ المُتَّحِدةِ، يبدو أنه راضٍ في وساطةِ عاموس هوكشتاين Amos Hochstien وهو مندوبٍ أميركي خاص مزدوجِ الجنسيَّة إسرائيلي ـ أميركيٍّ، أسرائيلي بالولادةِ يهودي المعتقد صهيوني العقيدة، خدم كعسكري سابق في ما يسمى بجيش الدفاع الإسرائيلي، ويُحكى أنه كان عنصراً هاماً في جهاز الموساد الإسرائيلي، واختصَّ في تنفيذ مهام سريَّة خارج الكيان الاسرائيلي، بعد ذلك عمل مستشاراً للأمن القومي لرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي السَّابقِ شيمون بيريز، ولينتقلَ في ما بعد إلى الولاياتِ المُتحدة الأميركيَّة حيثُ تمكَّن بفضلِ اللوبي الصَّهيوني من شغل منصب مبعوث خاص للشؤون الدولية في وزارة الخارجية في عهد الرئيس باراك أوباما بصفة مساعد لكل من هيلاري كلنتون وجان كيري، وكُلِّفَ مؤخراُ من قبل البنتاغون الأميركي للقيام بمهام خاصة في الشرق الأوسط منها مهمته الحاليَّةِ أي ترسيم الحدود البحريَّة ما بين الكيان الإسرائيلي وبعض الدول العربيَّة ومنها لبنان.
بُعاني لبنان الرِّسمي من إرباكٍ شديدٍ في مُقاربتِهِ لهذه المَسألةِ الحَسَّاسة، والتي تُنذرُ بأمرٍ من اثنين إما خِسارةِ حيِّزٍ من إقليمِهِ البحري غَنيُّ بمَخزونِهِ من الغاز الطَّبيعي، وإمَّا بنُشوبِ حربٍ مُدمِّرَةٍ قد ينجحُ البعضُ في استقراءِ كيفَ تبدأ إنما أحداً لا يمكنه التَّكهُّنَ كيفَ تنتهي، وإن كانت كل المُعطياتُ المُتوفِّرةُ حاليَّاً توحي بأن لبنان غيرَ مٌستعدٍّ لخَوضِ غِمارِها في ظِلِّ ظروفِهِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والأمنِيَّةِ والماليَّةِ والنَّقديَّة والمَعيشيَّة …الخ
القِوى السِّياسيَّةِ المُعارِضَةِ للطبقةِ الحاكمةِ أو المُمسكة بالقرار السياسي، ويُضافُ إليها الحِراكُ المدني وفي مُقدِّمتِهم القوى التَّغيريَّة فهم يعلنون جهارةً تمسُّكهم بالخط 39 كشعارٍ، إلاَّ أنهم غير مُجمعين على كيفَّةِ المُقاربةِ لصونِ الحُقوق، ويبدو أنهم غير مُلمين بكامِلِ المُعطياتِ ذاتِ العلاقَةِ بمُرتكزاتِ التَّفاوضِ وبالتالي غير مدركين لمُجرياتِ الأمور، ولم يطرحوا حلولاً عمليَّة، ويُضافُ إليهم جيشٌ من المُحللين السِّياسيين والخُبراء العَسكريين والمُتطفلين يُطلقون مواقِفَ مُتشدِّدَة ظاهِرِيَّاً، غير مُستندين لأدِلَّةٍ واضحةٍ ومُتَّفقٍ عليها قانوناً وعُرفا، والأخطرُ من كُلِّ ذلك يُطالبون في منع العدو الإسرائيلي من استخراج الغاز بالقُوَّة، وهم لا يملكون أي من مُقومات الدِّفاع عن المصالِحِ اللبنانيَّةِ عسكريَّاُ، ويعلمون ضعف إمكانيَّات الجيش اللبناني على المواجَهَة، وكأني بهم يلمِّحونَ لسلاحِ المُقاومَةِ، وبالوقتِ عينِهِ يأخذون عليها مُجرَّدَ تلميحها باللجوءِ إلى الخيارِ العَسكري في حال فشِلت المُفاوضاتِ، وأظهرت الدَّولةُ عَجزَها في حِمايَةِ حُقوقِها ومصالِحِها.
نقولُها وبكٌلِّ مَرارةٍ، ها هو لبنان منزلقٌ إلى أتون أزمَةٍ حقيقيَّةٍ مَصيريَّة، ةإن لم تودي إلى حرب، بسبب سوء الأداء على أعلى المُستويات، ويُعزى ذلك لمنهجِ المناكفاتِ والمُناحَراتِ السِّياسِيَّةِ التَّعطيليَّةِ إلتي أودت بروحيَّةِ العملِ المؤسَّساتي، وكرَّستِ منهجيَّةَ التَّفرُّدِ، واجتهادِ كُلُّ فَريقٍ من موقِعِه بدلاً من الإجماع على موقفٍ موحَّد، الأمرُ الذي جَعلنا نتَّخبَّطُ في خِضمٍّ خياراتِ غيرِ مَدروسةِ وقراراتِ مُرتجلةِ غيرِ مَحسوبةِ النتائج، ما وضعَ المسؤولين في وضعٍ مأزومٍ، ما بين سِندانِ التَّعنُّتِ الإسرائيلي ونَبَراتِ التَّخوينِ الدَّاخِلِيَّة، فتندفعوا يَستنجدون بالخُصمِ (الأميركي) أي داعِمِ العَدو الأصيل (الإسرائيلي) مُتمنين عليه لَعِبَ دورِ الحَكَمِ الحياديِّ والنَّزيهِ والفَصلِ في النِّزاعِ على نحوٍ لا يموتُ الذِّئبُ ولا يفنى الغنم، رَغمَ عِلمِهِم أن هذا الراعي المُستجارُ به أحولُ العينينِ وأزوطُ الأذنين، بحيثُ يرعى مَصالحَ الذئبِ منذُ ولادتِه وغيرُ آبهٍ إن جاعَ كُلُّ الغنمِ.
ورَغمَ كُلُّ هذه الوقِائعِ المُثبِطَةِ والمُحبِطَةِ نَقولُ للمَسؤولين لقد أخفقتم في إدارةِ هذا الملف، بخرقِ سريَّتِه وجعله مُتناولاً على الألسن، كما بتقصيركم في إعدادِ ملفٍ مُتكامِلٍ ومُتماسِكٍ مبنيٍّ على حقائقَ وأدلَّةٍ ثابتة وقرائنَ منطقيَّة ونُصوصٍ واضِحة، وأعرافَ سائدة، واجتهاداتٍ دامغة، ومواقِفَ مُقنعةٍ، كما أخفقتم في إدارةِ عمليَّةِ التَّفاوض، بدأً بالتَّحضيرِ لها مروراُ بإعدادِ فريقٍ مُتخصِّصٍ لتوليها، وإمدادهِ بالمعلوماتِ الكافية، انتهاءً بترتيبِ المطالبِ بالتَّدرُجِ بدأً بما هو أقصى انتهاءً بما هو أدنى. كما أنَّكم تخاذلتم َفي بذلِ الجُهدِ الكافي على المُستوى الدَّولي سواءَ بتزويدِ المراجعِ الدَّوليَّةِ بملف مُتكاملٍ واضِحٍ وجلي، كذلك بعدمِ شَحذكم الدَّعم الدَّولي صوناً لحقوقنا في حمايةِ ثروتنا الطبيعيَّةِ ومصالِحنا.
وأختم بالقولِ إننا رغم الحَرجِ الذي نحن فيه، إلاَّ أن العدوَّ ليس على أحسنِ ما يرام، علينا التَّحسُّبُ، والعملُ على كشفِ مواضِعَ ضَعفِهِ وهي كثيرةٌ بدأُ بوجودِ هدفٍ ثمينٍ (سفينة الحفر) لا يُغامِرُ في تعريضِها للأذى أو التَّدمير، ولن تُفرِّطَ بها الدَّولةُ التي تحملُ علمها، ولا الشركةُ التي تملُكُها؛ واستغلال ما لدينا من عناصرَ قوَّةٍ، ولا ضيرَ في أن إنذار العدوَّ بأن الرَّدِّ عليه إن جَنَحَ للحربِ وفُرِضت علينا، لن يكونَ في نُزهَة، ولا مَحدودَةٍ أو مَحصورَة وليبلَّغ بأنه يتُفتحُ أكثرُ من جبهةٍ بالتَّزامن، وأنه سيُستعملٌ كل ما لدى القوى الصديقة ولمرَّةٍ واحدةٍ من أسلحِةِ مُتاحَة، وليُنذَر أيضاً بأن أرضَهُ وما عليها لن تسلمَ ومُدُنًهٌ وبٌناهٌ التَّحتِيَّة ومَصالِحَهُ وسُفنَه ستكون أهدافاً مشروعَةً ومُتاحَةً؛ ولتُستَغلُّ جَميعَ الفُرَصِ المُتاحَةِ بما في ذلك إمكانيَّةَ إلهاءِ العَدوِّ من داخلِ كيانِه، ولنحتَسب لكُلِّ أنواعِ المَخاطِرِ والتَّهديدات، وليكن الاستعداد بما استطعنا من قوَّة، بحيثُ نتكاملُ جميعاً “جيشاً أو جيوشاً وشعبا ومقاومةً وأفراد”. وإن وقعت الواقعةُ فلتكُن مَعركةُ الجميعِ دون استثناء بدلاً من بياناتِ الإدانةِ والاستنكار، لأنَّ السُّقوط هذه المرَّةِ سيكونُ مُدويَّاً وقاتلاً، وسيُكشًفُ زَيفَ كُلِّ شِعاراتِ التَّكافٌلِ والتَّضامُنِ المزعومَة، وستُسجَّلُ المَلاحِمُ وتتعرَّى الطَّلاسم. فلنتفادى الحرب وإن فُرِضَت فلتَكُن “كاريشُ أم المَعارك”.