فليُخضَعُ الحاكم لمُساءلةٍ قَضائيَّةٍ شامِلَةٍ وشَفَّافَةٍ بعيداً عن التَّشهير وعند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لا يختلف اثنان على ذكاء الحاكم المؤتمن على العملة الوطنيَّة والاستقرار النقدي والمالي ورعايةِ القطاع المصرفي. إنه بالمَعنى المجازي هو بحكم موقعه وصلاحيَّاته “الأمين على أموال الدولة واللبنانيين” أو هكذا ينبغي أن يكون، والكُلُّ مجمعٌ على أهميِّتهِ دَره الإجرائي والرَّقابي إلَّا أنهم فرادى مُحتارون في توصيف مُجمل ما تنطوي عليه قراراتُهُ وتعاميمُهُ من تدابيرَ وإجراءات، أهي هَندساتٌ ماليَّةٌ أم هلوسات أم خُزعبلات أم تخرُّصاتٍ مُبتكرَةٍ لم يشهد التاريخ البشري مثيلا لها، وبالتالي يعجز الخبراء الماليون والاقتصاديون وحتى اللغويون في إيجادِ توصيفٍ يليقُ بها. والعجب العجاب أنه لا يكاد واحدها أن يعمَّمَ على كنتوارات المصارفِ ليُطِلَّ آخَرٌ مُعدَّلٌ أو مُمَدِّدٌ أو موقِفٌ لمَفعولِ ما سَبَقَه.
إنها آخر إرهاصات هذا العصرِ ونتاجَ مخبَّلةِ حاكمنا الميمون التي لا تنضُبُ ابتكاراتُها وتفنُّنِها في حَقلِ السِّياسَةِ النَّقدِيَّةِ وإدارَة واستِغلالِ الأموالِ العامَّة، ولكنَّها بالتأكيد لن تكون الأخيرة في إطارِ إبداعاتِهِ الخَلاَّاقَة، فالولايَةُ المُجدَّدةُ ولو للمَرَّةِ الحادِيَةِ عشرَةِ لمَّا تنتَهِ بعد، ولا هو راغبٌ في الاستقالة. ولا أخفيكُم القولَ بأني كُنتُ من المُعجبينَ بأدائهِ الظَّاهريِّ، ولطالما دافعت عن أدائه مُلقياً اللوم كُلَّ اللومَ على سوءِ الأداءِ السِّياسي والسِّياساتِ التَّعطيليَّة بالتَّحديد، أمَّا اليومَ فألومُ نفسي لغَفلتِها عمَّا تكشَّف مما هو خفي منها.
لقد كثُرت الألقابُ التي نودي بها من قبلِ نُقَّادِ أدائهِ والمُحتجِّينَ على بقائهِ في منصِبِه و بمحاكمته، فهو الحاكمُ بأمرِ المالِ والمُستحكم بالمال العام والمُتحكِّمِ بأموالِ اللُّبنانيين الخ… وحدَهم من سَهّلَ لهم تهريبَ أموالِهِم للخارِج أو استفادَ من هندساتِها الماليَّةِ حفظِوا ألسنتهم، أو بلعوها، وقلَّةٌ انبرت للدِّفاعِ عنه قولاً أو فعلا.
وها أنا اليومَ أدعوا لتكريمِهِ ومنحهُ أعلى الأوسِمَةِ واعتِباره بَطلاً وطنيَّاً وترشيحهِ لمنصبِ رئاسةِ الجُمهوريَّة، لكن دعوتي مشروطةٌ ومعزَّزةٌ بالأحاجيج. مشروطةٌ باثباتِه براءته من كُلِّ ما يزعمُ أنه منسوبٌ إليهِ بهتاناً وافتراءً، ومُعزَّزةٌ بكونَهُ أثبت صلابةً في وجهِ الحملاتِ التي شُنت في وجهه، واستطاعَ الاستمرار في منصِبِه رَغمَ كُلِّ مُحاولات الذئاب المُفترسة الجَشِعَةِ الوقِحَة، وها هو يَسرَحُ ويَمرحُ ويتصرَّفُ كما يَشاءُ في إدارَتهِ للسياسة النَّقديَّة وكما في إشرافِهِ على القِطاعِ المصرفي، وها هو يسقُطُ كلَّ محاولاتِ النَّيلِ منه أو يسعى لإقصائهِ واستبداله، وهذا خيرُ دليلٍ على أنه فيما لو قُيِّد له واستَلمَ دفَّةَ الحُكمِ سيكون حكماً رئيساً قويَّا بالفعل، ولا ينقصُهُ التَّقديرُ والشَّهاداتُ ولا التنويهاتُ بإنجازاته العِظام.
لقد استَطاعَ الحاكم الاحتِفاظَ بمَنصِبِهِ منذ أن أتى به دولةُ الرَّئيس الشَّهيد رَفيقُ الحَريري رَحِمَهُ الله إلى حاكِمِيَّةِ مَصرِفِ لبنان، ويبدو أنَّه باقٍ بمنصِبِهِ طالما بقيت الطَّبقَةُ السِّياسِيَّةِ التي ساهمَ قي إثرائها بهندساتِهِ المالِيَّةِ أو بقُروضِهِ المَدعومَةِ التَّيسيرِيَّةِ او بالتَّستُّرِ على تَهريبِها لأموالِها إلى خارِجِ لُبنان أو بإخراجِها من المصارفِ المودَعةِ بها.
تقتضي الموضوعيَّةُ منَّا الإقرارُ بأن الأداءَ السِّياسيَّ المُتَخَبِّطُ والإمعانُ في المُماحكاتِ السِّياسِيَّة التَّعطيليَّة، والتَّظيفاتِ العشوائيَّة، وتبني سِياساتٍ ماليَّة باذِخَةٍ وشَعبَوِيَّة، وتَلوُّثُ غالِبِيَّةِ الصَّفقاتِ والمُناقَصاتِ والتَّلزيماتِ العُمومِيَّةِ الهامَّةِ بالفَساد. هذا بالإضافةِ إلى حَشرِ الدَّولَةِ اللبنانيَّةِ في أتونِ النِّزاعاتِ والحُروبِ الإقليميَّةِ واستِعداءِ العَديدِ من الدُّولِ العَربِيَّةِ بمواقِفَ حادَّةٍ مُمانِعَةٍ ظاهِرِيَّا وخِطاباتٍ لاذِعَةٍ ومُنحازَةٍ الخ… تبقى من المسبَّابِ الأساسَيَّةِ في انهيارِ الوَضعِ المالي للدَّولة، والذي أدَّى إلى عجزِ القِطاعِ المَصرفي عن تلبيَةِ طاباتِ مودِعِيهِ المالِيَّة، وما نتجَ عنه من انعدامٍ للثقة بهذا القِطاعِ الذي انهارَ أو على وشك الانهيارِ الكُلي في الوقتِ الذي يُشكِّلُ عصَبَ الاقتصادِ وحركةِ الإيداعاتِ الماليَّةِ من وإلى لبنان. إلا أن الموضوعيَّةَ تقتضي منا القول أيضاً أن الحاكم لم يكن بعيداً عن كُلِّ ما حَصَلَ ويَحصلُ، حيثُ ارضى أن يكونَ غطاءً لسُّلوكيَّاتِ ملتويَةٍ ومُسهِّلاً لسُلوكِيَّاتٍ أخرى، ومُشاركاً في بعضِ مما هو مَشبوهُ، ومُلتبساً في مواقِفِه في مسائلَ كانت تقتضي مواقفَ حكيمةٍ وجريئة. بحُكم موقِعِه، والسُّلطاتِ النقديَّة والماليَّةِ والمصرفيَّةِ المُخوَّلَةِ إليه.
خِلالَ مَسارِهِ التَّصاعُدي سَطَعَ نَجمُ حاكم مَصرِفِ لبنان إقليميَّاً ودوليَّاً، وبدا حاكِمٌ ألمعيٌّ، فلاقى ما لاقاهُ من احترامٍ على المُستوى الدَّاخلي، كما حَظِيَ بكثيرٍ من التَّكريمِ ولطالمَا أُشيدَ بحِكمَتِهِ وتَبَصُّرِهِ في تدبيرِهِ للمستحقَّاتِ الماليَّة المُتوجِّبةِ على السُّطاتِ اللُّبنانيَّة، كما تُوِّجَ خارجيَّاً كأفضل حاكم مَصرفٍ وَطني على المُستووينِ العَربي والدَّولي، ومُنحَ ألقاباً فخريَّة والكثيرَ من الأوسمَةِ والدُّروعِ التَّقديرِيَّة على هذا الأساس. إلاَّ أن تلك الهامَةُ التي صُوِّرَ بها الحاكِمُ سُرعانِ ما تشوَّهت سُحنَتَها وجُرِّدت من مزاياها التي بدت وكأنها كانت مصطنعةً ومتصَنِّعة، لمجرَّدِ انكشافِ حَقيقَةِ الوَضعِ المالي الذي أُخفِيَ عن اللبنانيين. بعدَ أن كان الكثيرُ من المُتابِعين للمُستجدَّاتِ السِّياسيَّةِ يَظُنُّون أن الحاكم يَسعى جاهِداً إلى التَّخفيفِ من وَطأةِ الأزَماتِ السَّياسِيَّةِ على ماليَّةِ الدَّولة، في حين أنَّه تبين لاحِقا أن السِّياساتِ النَّقديَّة والمالِيَّةِ والمَصرفيَّةِ يعتربها الكثيرُ من الخللِ، وأن ما كان يحصلُ في هذا الإطارِ هي ما هو إلا عَمليَّةَ تلبيسِ طَرابيشَ مورِسَت بحِنكَةٍ عالِيَةٍ، لإخفاءِ أو تأجيلِ كارِثَةٍ مَالِيَّةٍ لم يَشهَدَ لُبنانُ مَثيلاً لها مُنذ نَشأتِه.
فبدى الأمرُ وكأن ما كان يقال على ألسنِ الكثيرِ من المسؤولين، وما يطلقونه من تطميناتٍ كانت من قبيلِ الشَّعوذاتِ المالِيَّةِ التي جاءت مفاعِيلُها سَلبِيَّةً على الجَميعِ بمن فيهم السَّحَرَةُ الذين أطلقوا الكَذِباتِ ومن ثمَّ صَدَّقوها. وبدت تتَّضِحُ مَعالِمُ آثارِها الهدَّامة. فحلَّ الإعجابُ والمديحُ بكيل الشتائم واستُبدِلت حَفلاتُ التَّكريمِ بتَحرُّكاتٍ مُناهِضَةٍ لأداءٍ الحاكم وهَندساتِهِ المالِيَّة، وتعالت أصواتُ المُطالبينَ بإقصائِهِ ومُلاحَقتِهِ جَزائيَّا، وقُدِّمَت شَكاوى عِدَّةٍ بحَقِّه، وحُرِّكَت مَلفَّاتٌ جَزائيَّةٌ أُخرى استِنادا لإخباراتٍ أو من دونها، أمَّا المُطئنون لمتانة الوضعِ المالي والعملةِ الوطنيَّةِ استناداً لتطميناتِ الحاكمِ فخَرِسوا، وأضحَت خِطاباتُهُم ألعوبَةً تتناقَلُها وسائِطُ التَّواصُلِ الاجتماعي.
لم تقتصر تَداعِيَاتُ الانهِيارِ المالي على مُستوى الدَّاخِل اللُّبناني، بل ظَهَرَت لها أبعادٌ عابِرَةٌ للحُدودِ، إذ توقَّفَت مظاهِرُ التَّكريمِ الخارِجِيَّة، ليَحُلَّ مَحلَّها فَتحُ مَلفَّاتٍ بناءً لشُبُهاتٍ بالفَسادِ انطوت على اتِّهاماتٍ بتَبييضِ أموالٍ، طاولت الحاكم بشَخصِهِ كما شَقيقَهُ وصاحِبَتَهُ كما وَصفَها البَعض، تناولت التحقيقاتُ عِقاراتٍ باهِظَةِ الثَّمَن ومبالِغَ نَقدِيَّةٍ خَيالِيَّة، والكثيرُ من الشَّرِكات منها المُحقَّقُ فِعليَّا ومنها الوَهمي.
ويدعونا الإنصافُ للإقرارِ أنه رغمَ الكثيرِ من الانتقادِ، وغنى لبنان بالكثيرِ من الطَّاقاتِ البشريَّةِ المُتخصِّصةِ في المجالينِ الاقتصادي والمالي، إلاَّ أن الإنتقاداتِ لم تحمُلَ في طيَّاتِها مُقارباتٍ ترقى إلى مصافِ الآليَّاتِ التي يمكنُ ترجمتها بخِطَّةِ نُهوضٍ اقتِصادِيَّةٍ مبنيَّة على رؤيةٍ قادرةٍ في حالِ اعتِمادِها على جعلِ لٌبنانَ بتعافى من أزماته الاقتصادية والماليَّة والمصرفيَّةِ والنَّقديَّة.
من يَنظُرُ للحاكِمِ اليومَ يَفتَقِدُ لذاك الوَجهِ الصَّبوحِ والبَسمَةِ البَشوشَةِ، لم يَعُد حالُهُ كما كان بل خَفَتَ وهجهُهُ وقَلَّ بريقُهُ وندرت قلت إطلالاتُهُ الاعلامِيَّة، واعترى وجهُهُ بعضٌ من الاحمِرارِ والاصفِرارِ خَجَلاً وتوجُّسَا. فلا يسعُهُ سوى القَولُ رَبَّاهُ رأفةً بعزيزِ قومٍ أُذِلَّ.
قد يرى البعضُ وجوبَ تنحي الحاكم عن منصِبِه أدبَّاً، وإن كان بعضٌ آخر لا يَستغرِبَ أن يَسعى الحاكِمُ رَغمَ كُلِّ ما جرى إلى التَّمسُّكِ بمَنصِبِه، وخاصَّة أنَّهُ كان يَتطلَّعُ للانتِقالِ منه الى تولي رِئاسَةِ الجُمهورِيَّةِ، وهذا طموحٌ مَشروع، ولكنه اليومَ ثمَّةَ أسبابٌ أُخرى تَدفعه للتَّمسُّكِ بالمَنصِبِ أقلُّها استِغلالَ الحَصانَةِ التي يَتمتَّعُ بها بحُكمِ المَنصِب، كما للتَّخفيفِ من وَطأةِ الدَّعاوى والمَلفَّاتِ التي تُثارُ في وَجهِه، ولمَنعِ أو تأخيرِ اتِّخاذِ أو تنفيذِ أيَّةِ إجراءاتِ قَسرِيَّةٍ في وَجهِه.
الحاكم لا يُواجهُ مُنفرداً ما يُثارُ ضِدَّهُ من قَضايا وادعاءاتٍ سواء كانت صَحيحةً ومُحِقَّةً، أم هي مجرَّدُ افتراءاتٍ لا تمتُّ إلى الحَقيقَةِ في شَيء بل يَقِفُ خَلفَهُ وبجانبِهِ عَددٌ من المَرجَعِيَّاتِ الدَّاخليَّة، بعضُهم توفُّرُ له غطاءً سِياسيَّاً رَدَّا لَجَميل، والبَعضُ الآخَرَ لمُجرَّدِ مُناكِفَةِ خُصومٍ سِياسيينَ يَرغَبونَ للتَّخلُّصِ منه، ويُضافُ إليها دعمٌ خارِجِيٍّ غيرِ معلن، وان يكن لأسباب مُختلِفَة، قد تعزى لحِساباتٍ ذاتُ أبعادٍ لا شأن لها بالشُّؤونِ المالِيَّةِ إنما تصفيةً لحساباتٍ دَولِيَّةٍ وإقليمِيَّة أبعدُ مدى من لبنان.
هذا التَّوصيفُ الحالي لما هو عليه الحال بالنسبةِ لحاكِمِ المَصرفِ المَركَزي من حَيثُ الشَّكلِ والأسبابِ سَواء كانت ظاهِرَةً أم غير مُعلَنَة. ولكن ما كان يَنبَغي أن يكونَ عليهِ الوَضعُ فيما لو استُبعدت الاعتِباراتُ السِّياسِيَّة؟ في ظِلِّ المَخاطِر التي قد تَترتَّبُ جَرَّاءَ مُخالَفَةِ المبادِئ والنُّصوصِ القانونِيَّةِ ومَنطِقِ الأُمور.
إن بوادِرً الشُّبُهاتِ حَولَ سُلوكِيَّاتِ الحاكم، كانت مع الإخلالاتِ في أمورِ الرَّقابَةِ المالِيَّةِ لما عُرِفَ بفَضيحَةِ بنك المدينةِ والتَّرقيعاتِ التي جَرَت على ضَوئها لمُعالَجَةِ أموالِ مودعي ذاك المَصرِف الذي مني صاحبهُ بخسارةٍ فادحة. ولم تُثَر حينها مَسؤوليَّاتُ كل من الحاكِمِ ولَجنَةِ الرَّقابَةِ على المَصارِفِ وهَيئةِ التَّحقيقِ الخاصَّةِ التي يرأسُها الحاكِم، وذلك لاعتِباراتٍ أملتها قوى الأمرِ الواقِعِ، بإيعازٍ او بغَطاءٍ من أعلى مَسؤولٍ في جِهازٍ الاستِطلاعِ السُّوري اللواء رُستُم غزالَةِ الذي لَقِي حَتفُهُ خِلالِ المُلاحَظاتِ في سوريا.
ولكن المُستغرَب في الأمرِ أن يبقى الحاكم في الحاكِمِيَّةِ مُطلَقِ الصَّلاحِيَّات، رَغمَ كُلِّ ما أثيرَ من حَولهُ من شُبُهاتٍ وتَكشُّفٍ فاضِحٍ لسوءِ التوجُّهاتِ السِّياسِيَّةِ المالِيَّةِ والنَّقدِيَّةِ التي اعتَمدَها، بما في ذلك سِياسَةَ القُروضِ المُيَسَّرَةِ والمَدعومَةِ في ظِلِّ مَعرِفَتِهِ بالانهيارِ المالي المُستَتِرِ بغِشاوةٍ من التَّصريحاتِ التَّطمينِيَّةِ غَيرِ المبنيَّةِ على حقائقَ عِلميَّةٍ أو واقِعِيَّة.
وإذا كان البعضُ يُشَكِّكُ في ما أُثيرَ من مَزاعِمَ على المُستوى الدَّاخِلي، لم يَعُد ذلك مَقبولاً بعد أن أُبلِغَت الدَّولَةُ اللبنانِيَّةُ أُصولاً وعَبرَ مَراجِعِها الرَّسمِيَّةِ من دُوَلٍ تَتحلَّى أجهِزَتُها القَضائيَّةِ بالاستِقلالِيَّةِ وبسِمعَةِ مرموقَة، بوجودِ شُبُهاتٍ حولَ ضُلوعِهِ ومُقرَّبينَ منه بقضايا بوشِرَت التَّحقيقاتُ فيها أوحُرِّكت ملفَّاتٌ قضائيَّةٌ بوجهِه، أو أُقيمَت دعاوى ضُدَّه.
وما يُثيرُ العَجَبَ وقوفَ مَجلِسِ النُّوابِ موقِفَ العَاجِزِ المُتفرِّجِ على انهِيارِ مالِيَّةِ الدَّولِة، وإن كنتُ شَخصِيَّاً كما الكَثيرينَ أُحمِّلُهُ تَبعاتِ الانهيارِ المالي والاقتِصادي نتيجَةَ إقرارِه لموازناتٍ غيرِ مُتوازِنَة، ولإحجامِهِ عن التَّدقيقِ في الحِساباتِ الخِتامِيَّةِ الخاصَّةِ بالمُوازَنَة، كما عن إجراءِ عَمليَّاتِ قَطعِ الحِسابِ في نِهايَةِ كُلِ سَنة مالِيَّة، ولِعَدَم تَكليفِ نَفسِهِ عناءَ تَكليفِ لَجنَةٍ برلُمانِيَّةٍ لتَقصِّي الحَقائق، للوقوفِ على مواضِعَ الخَللِ وتَدارُكِ المَزيدِ من الانهِيار.
والغريبُ في الأمرِهو تكليفُ شَرِكَةٍ أجنبِيَّةٍ للتَّدقيقِ الجِنائي في أعمالِ مَصرِف لُبنان كما في وزاراتِ الدَّولةِ وإداراتٍ أُخرى فيها، ولكن من دونِ كفِّ يدِ أيٍّ من المُشتبهِ بتَقصيرِهِم أو إخلالِهِم بواجِباتِهِم الوَظيفِيَّة، وحَصرِ الحُصولِ على البَياناتِ والمَعلوماتِ بطَلَباتٍ تُوَجَّهُ من الشَّرِكَةِ المُكلَّفَةِ بالتَّدقيقِ الى الحُكومَةِ اللبنانِيَّة، وللأسفِ ثَمَّةَ مَخاضٌ عَسيرٌ في كُلِّ مرَّةٍ تطلُبُ حُصولَها على مَعلومات، فيُستجابُ لبعضِ طلباتها وتُرفَضُ أُخرى.
وهذا ما يدعونا لطرحِ التَّساؤلاتِ التاليَة:
كيف لسُلُطاتٍ حُكوميَّةٍ أن تَطلُبَ بإجراءِ تَدقيقٍ جِنائي مَقَرَّةً ضِمنِيَّاً بوجودِ أفعالٍ جِنائيَّةٍ التَّوصيف، ولا تُبادِر الى فَتحِ تَحقيقٍ عَدلي قَبلَ تَكليفِ خُبَراءَ غيرَ محلَّفينَ للتَّدقيقِ ببَعضِ الأفعال التي تنطوي على سُلوكِيَّاتٍ مُجرَّمَة؟ وكيف تُستَجدى المَلفاتِ والبياناتِ ومُحتوى البَرامِجِ المَعلوماتِيَّةِ التَّشغيلِيَّةِ مِمَّن هم موضِعَ شُبهة، في حين أن الأمرَ يَستوجِبُ كفَّ يَدِ الذين يشتبهُ بسلوكيَّاتِهم، واستِنساخُ تلك البَرمَجِيَّاتِ والمُستنداتِ المُعتمدَةِ من قِبَلِهِم ومُحتوياتِها منعاً للعَبَثِ بها وتَحويرِ مَضامينيها وإخفاءِ القرائنِ الدَّالَّةِ التي يستدلُّ منها على أفعالٍ جُرمٍيَّةٍ والأدلَّةِ المُدعِّمةِ لذلك !!!!!!
وهل من المنطقِ والأخلاقِ أن يبقى المسؤولون سائرون بذات الأساليبِ التَّرقيعِيَّةِ الإعمائيَّةِ التي تقومُ على إخفاءِ الحقائق، بدلا من اعتمادِ مُقارباتٍ جريئةٍ، تُبَني على حُلولٍ جَريئةٍ ولو غيرِ شَعبَويَّة!!!!!
وكيف يُقبلُ عَقلاً الرُّكونُ لمن ثبت فشل سياساتهم النقديَّة والماليَّة في الحفاظ على الاستقرار النقدي وقيمة العملة الوطنيَّة لإدارة عمليَّة استعادةِ العافيَّةِ للوضعِ المالي، والثِّقةِ بالقِطاعِ المصرفي، والحِفاظِ على قيمة العملة الوطنيَّة واستِقرارِها!!!!!
وما يثير الاستِغرابَ ذاك التَّباينُ في مواقفِ السُّلطةِ القضائيَّةِ والتي بدت في تعامُلِهِا مع الأزَماتِ الحَادَّةِ والحَسَّاسَةِ وكأنَّها سُلطاتٌ، مُتفكِّكَةٍ، كُلٌّ منها له تَوجُّهاتُهُ ومَواقِفُهٌ حتى داخلَ هيكليَّةٍ الإدعاء العام (النيابة العامَّة) التي تَتمتَّعُ بتَراتُبيَّةٍ هَرَمِبَّةٍ تَسلسليَّةٍ حتى في التَّوجُّهاتِ القَضائيَّةِ العامَّة، وآخرُ معالمِ التَّخبُّطِ القضائي التَّعارُضُ بين القراراتِ القَضائيَّةِ حِيالَ الكثيرٍ من الأمور. وبالتأكيد لم يعد من الجائز وقوفَ الجِهازُ القَضائي كسُلطَةٍ مُستقلَّةٍ موقفَ المُتفرِّجِ مما يثارُ تجاه الحاكمِ من قضايا (سواء كانت مُحقَّةً أم مجرَّد افتراءات)، بل نراه مدوعاً لاتخاذِ زمامِ المُبادرةِ والوقوفِ موقفٍ مُتجرِّدٍ ومُشرِّفٍ، بوضعِ يدِهِ على الملف، وتَكليفِ المَرجَعِ الصَّالح بإجراءِ تحقيقاتٍ شاملةٍ ومعمَّقة ليبنى على الشيء مقتضاه ومن دون أي مواربة، رأفة بالوطن وحفاظاً على هيبةِ وسِمعَةِ كُلٍّ من الدَّولةِ والشَّعبِ والقَضاءِ وشَخصِ الحاكِم.
وأخلُصُ للقَولِ مُحتكِماً إلى القَولِ المأثورِ “عند الامتِحانِ يُكرَمُ المَرأ أو يُهان”، فليُنَصَّبُ الحاكِمُ رَئيساً إن ثَبُتَت براءَتُهُ وإن ثَبُتَ ضُلوعُه بجَرائمَ فَسادٍ أو أن سِياساتِهِ النَّقديَّةِ تَسبَّبت بشَكلٍ أو بآخَرَ بحالَةِ الانهيارِ المالي أو المَصرِفي أو في قِيمَةِ العِملَةِ الوَطَنِيَّة، فليُحاسَب سِياسِيَّاً وجَزائيَّا.
ربَّما يقولُ قائلٌ عَبثا نكتُب، وعَبثا نسعى للَفتِ انتِباهِ العُقَّالِ ممن يَعنيَهُم الأمر، وعَبثاً نُحاولُ إيقاظَ ضمائرَ الحُكَّامِ الخ…
ولكن رَجاءَنا يبقى مُعوِّلاً على صَحوَةٍ شَعبِيَّةِ لتَدارُكِ المَزيدِ من الانهيارِ قَبلَ فواتِ الأوان.
اللهم اشهد أني قد بلَّغت