حيّرَ النظام السياسي اللبناني العديد من خبراء السياسة ورجال القانون، ذلك أنه يتميّز بطبيعةٍ مُركّبة حيث لا يحتكم فقط للعقد الإجتماعي والدستور، بل تشاركهما مواثيق وصيغ واتفاقات ضمنية على تقاسم السلطة. وهذا ما جعل من التوازنات الطائفية مرحلية، حيث خلّفت فجوة عميقة وصدعاً كبيراً بالنسبة إلى الصلاحيات الدستورية بين النص والواقع، وإذا تُرجِمَت فهي غير صادقة لأحكام الدستور، واندحار لدولة القانون والمؤسسات .
فمن ضمن هذه المسائل تسطع بشكل ملحوظ إشكالية مُمارسة مجلس الوزراء صلاحياته بين النص والواقع، والتي هي نقطة مركزية في الحياة السياسية اللبنانية وثباتها. وتتمحور الإشكالية حول ضعف مجلس الوزراء في لبنان، والعقبات في ممارسته كامل صلاحياته الدستورية والمُكرَّسة في النص، خصوصاً في ألية عمل مجلس الوزراء التي تخوّله ممارستها والتي حدّدتها الفقرة (5) من المادة (65) من الدستور اللبناني .
بالإستناد الى إتفاق الطائف سنة 1990، جعل هذا النص الدستوري من مجلس الوزراء اللبناني هيئة دستورية قائمة بذاتها ولها استقلاليتها ونظامها الداخلي، مُكرِّساً بشكل واقعي ثُنائية السلطة التنفيذية والتي تعتبر من أهم أركان النظام اللبناني.
صحيحٌ أن السلطة التنفيذية لا يحقّ لها ممارسة صلاحياتها إلّا بعد حصولها على ثقة المجلس النيابي، الأمر الذي شكّل التباساً حقيقياً، إذ أن المادة (17) كانت اناطت السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء، لذلك لا تستمد الحكومة صلاحياتها من مجلس النواب ولا حتى بتفويض منه بل من الدستور مباشرة، على الرغم من أنها صلاحيات لا تُكتَسب، ولا يُمكن أن تُمارسها الحكومة إلّا بعد فوزها وحيازتها الثقة. لكن ذلك لا يعني بتاتاً أن السلطة التنفيذية تستمد وجودها من المجلس النيابي، ذلك أن تشكيل الحكومة في لبنان أمرٌ يدخل في عمق اختصاص السلطة التنفيذية، تلك السلطة الموجودة دائماً والمُتّصفة بالاستمرارية والديمومة، حيث أن تعيين رئيس الحكومة يتم بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية بحسب الفقرة الثالثة من المادة (53) من الدستور بناء على استشارات نيابية مُلزِمة، ولم ينص الدستور بشكل صريح على وجوب انتخاب رئيس مجلس الوزراء في مجلس النواب. والأمر بكامله إنما مردّه الى النظام البرلماني اللبناني، حيث أن السلطة التنفيذية هي مؤسسة اصلية قائمة بذاتها ولا تنبثق عن البرلمان وإلّا اصبحنا بنظام مجلسي، حيث تنحصر جميع السلطات بالبرلمان او ما يوازيه.
يتميّزالنظام البرلماني بطبيعةٍ مُغايرة ومُعاكسة لذلك، وهو مُؤسَّس على مبدأ الفصل بين السلطات بصراحة حسب الفقرة (ه) من مقدمة الدستور والتي تقر “النظام القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها” .
تخضع السلطة التنفيذية لرقابة المجلس النيابي ولكن مع المساواة التامة معها، وانسجاماً مع النظام البرلماني وطبيعته تُقابل هذه الرقابة قدرة السلطة التنفيذية على حلّ المجلس. فعلى الرغم من ان فرضية حل مجلس النواب مُستبعَدة جداً في لبنان نظراً إلى استحالة سبل تحققها في الدستور بعد تعديلات 1990، لكنه متاح ولو من الناحية النظرية فقط بحسب المادة (55) من الدستور اللبناني.
إن اعتبار البعض من ان السلطة التشريعية تملك صلاحيات مُطلَقة وحرية كاملة تحت مقولة “المجلس سيد نفسه “، وهو اعتبار منقوص شكلاً ومضموناً، حيث ردت عليها المادة (43) من الدستور اللبناني ب”أن للمجلس النيابي أن يضع نظامه الداخلي”، أي أنه يستطيع بالتالي ان يضع القواعد التي ترعى عمله الداخلي بحرية تامة، والتنظيم الاداري الداخلي كتحديد عدد اللجان وكيفية التصويت والإجراءات اللوجيستية، إذ أن الهدف الاساسي من التظام الداخلي هو حماية السلطة التشريعية من هيمنة السلطة التنفيذية، خصوصاً بعدما انتشرت الأنظمة البرلمانية بشكل واسع.
أما في ما يخص رئاسة مجلس الوزراء وإدارة جلساته الحكومية، فرئاسة الجلسة تكون عادة لرئيس الحكومة، إلّاإاذا حضر رئيس الجمهورية حيث يرأسها من دون ان يكون له حق التصويت، ذلك أن القاعدة الأساس دستورياً هي بترؤس رئيس مجلس الوزراء للجلسات، والإستثناء هو ان يترأسها رئيس الجمهورية. أما واقعياً فقد اصبح الإستثناء هو القاعدة الأساس حيث ان رئيس الجمهورية يحضر غالبية الجلسات الحكومية.
يتمتع رئيس الحكومة بصلاحية أن يختار بصورة استثنائية من بين المواضيع التي يُقدِّمها اليه الوزراء تلك التي تُستعرَض في الجلسة، أما لناحية ربط النص الدستوري بين صلاحية رئيس الحكومة مُنفرداً بإعداد جدول الاعمال وبين موجب إطّلاع رئيس الجمهورية عليه، فإن هذا الإجراء دستورياً لا ينتقص في هذا المجال من مدى سلطة رئيس الحكومة ولا يمنح رئيس الجمهورية حكماً صلاحيات إضافية.
لقد تمحوَرت الديموقراطية التوافقية في لبنان حول نَمَطَين هما البنى المجتمعية والوقائع الموضوعية. والدور الفاعل في تحقيقها هو الذي جعل من الدستور والقوانين والمؤسسات مواد اولية وسلعاً لصالح التوافق، وليست القيم العليا التي ينبغي احترامها وتطبيقها باستعمال مُلتبس لقواعد عدة أبرزها “لا شرعية تُناقض العيش المشترك”، ومخالفات للنصوص الدستورية التي جعلت التوازنات الطائفية توازنات مرحلية وظرفية.
لقد تم استغلال مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها ليس لخدمة النظام الديموقراطي البرلماني وإنّما لخدمة المصالح السياسية الطائفية المحكومة بالتوافق والصفقات بدائرة اقطاب مغلقة يتكلمون في معظم الأحيان بمنطق الجماعات وليس الوطن، جاعلين الدستور مجرد وجهة نظر في قراءته وتفسيره والإنتقائية في تطبيقه.
وعلى قدر ما يكون الجو الإيجابي مُنتشراً والمعيار التوافقي غالباً ومُسيطراً، بقدر ما نلاحظ التعاون والمرونة والتضامن والإحترام للصلاحيات والتكريس للسلطات. وإزاء أول عقبة نعود للمناكفات ومنطق حرب الصلاحيات وتضاربها والضحية الأولى هي الدستور لاحتوائه على مساحات رمادية ومواد قانونية مكتوبة بعبارات مطاطة وغامضة تنطوي على أكثر من تفسير.
ويكمن الأخطر في شعورنا بأن الدستور كأنه يلغي نفسه ويشل طاقته وقدرته وعدم فاعليته بنصوص مُتناقضة ومُلتبِسة فاسحاً بذلك المجال لاختراقه بسهولة بغياب تام للمؤسسات الرقابية والسلطة القضائية وفلتان لفورة وجهة النظر التفسيرية التي تصبح رهينة التوافق والأهواء الإتفاقية. وهذا ما نلحظه كثيراً في وقتنا الحاضر، حيث تجلى ذلك بوضوح مثلاً بمسألة الدعوة إلى انعقاد مجلس الوزراء وما أثارته في إطارها الفقرة (12) من المادة (53) من الدستور اللبناني التي تنص على أن رئيس الجمهورية “يدعو مجلس الوزراء إستثنائياً الى الإنعقاد كلّما رأى ذلك ضرورياً بالإتفاق مع رئيس الحكومة”. وذلك يعني أن دعوة رئيس الجمهورية لانعقاد مجلس الوزراء مُعلَّقة على اتفاق بين الرئيسين (رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء)، حيث أن المبادرة هي من صلاحية رئيس الجمهورية لأمر إستثنائي ولكن انعقاد الجلسة مرهون بموافقة واقتناع رئيس مجلس الوزراء، إذ أنه لا يُمكن لرئيس مجلس الوزراء ان يرفض بالمطلق ذلك لأن الدستور حفظ وضمن هذه الصلاحية لرئيس الجمهورية بشكل استثنائي وليس بشكل دائم ومتواتر، أي أن الأمر الإستثنائي وغير المتوقع هو الذي اعطى الصلاحية لهذا الإجراء ولدستورية هذه المادة. كما أن هذه المادة لا تعطي الصلاحية الكاملة لرئيس الجمهورية فهي إستنسابية إذاً ومُعلّقة على شرط موافقة رئيس الحكومة، والذي يفرض عليه الدستور ويُقيّده حكماً بإلزامية تعليل أسباب الرفض.
فانطلاقاً من التعديلات الدستورية لعام 1990، وإخلاصاً لنظام لبنان السياسي البرلماني الديموقراطي والذي نعتبره المدماك والحجر الأساس للميثاق الوطني، نجد أن في احترام نظامنا وتطبيقه إحتراماً كبيراً للسلطات والصلاحيات ولتوازنها وتعاونها، بحيث تشكل كل سلطة مركزاً للثقل في نظامنا السياسي اللبناني. فالأولوية هنا إذاً تكمن في الإحتكام للدستور والقوانين، والعمل على تطبيقها بشكل صادق وليس الى سلوك النزعات والأهواء الشخصية، لسنا بحاجة لرئاسيات لا صلة لها بنظامنا بل نحن بحاجة إلى تطبيق عقدنا الإجتماعي بأمانة!
نشر اولا في مجلة اسواق العرب اللندنية
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا