لا تندبوه كأَنَّه مات فهو لن يموت | بقلم هنري زغيب
بين هَلَعي الفاجع قبل أَيامٍ على فقداني ولدي الوحيدَ وهَلَعي كلَّ يوم على وطني الوحيد، أَرى إِلى هامة الوطن فتقوِّيني.
وإِذ وقفتُ أَمسِ الأَول في صلاة الجنَّاز على روح ولَدي الذي غاب عني إِلى الأَبد، لن أَقفَ في صلاة الجنَّاز على روح الوطن لأَن روح لبنان حيَّةٌ بي ونابضةٌ، وأَقفُ، وسوف دومًا أَقفُ لا في صلاة جنَّازِهِ بل في صلاة بقائِهِ: واقفًا في الريح أَيًّا يكُن عصْفها، وصامدًا على جبين التاريخ كصمود أَرزه على جبين جباله الشُمّ. لذا أَرفض كلَّ ما تتناقَلُه شاشات التلفزيون وشاشات وسائل التواصل من لهجة رثاءٍ وبكاءٍ على الوطن كأَنه انتهى، كأَنه مات، كأَننا نَتَهَيَّأُ لجِنازته.
أَبدًا. هذا لا يكونُ اليومَ ولن يكون في أَيّ يوم.
نَمُرُّ بزمنٍ صعب؟ صحيح.
تَتَهَدَّم عندَنا قُرًى وبيوت؟ صحيح.
تُقْصَف بيروتُ كلَّ نهارٍ وكلَّ ليلة؟ صحيح.
نحن أَمام عدُوٍّ تنينٍ وحشيٍّ هو عدُوُّنا من أَوَّل التاريخ لا من التاريخ الحديث؟ صحيح.
لكنَّ ما نَشهَدُه اليوم قد يكون جديدًا على جيلنا، وقاسيًا على أَبناء الجيل الجديد (مَن هُم بينَنا، ومَنْ هاجروا هربًا مما عاينوا فخافوا وغادروا). لكنَّ ما نعايِنُه ونعانِيْه ليس جديدًا على أَجيالِ مَن سبَقُونا وعايَنوا وعانَوا ولم يخافُوا ولم يهاجرُوا ولم يكْفُروا بلبنان، بل صمَدُوا برجولة التشبُّث بأَرضٍ وتاريخ، فحافظوا على الأَرض وشرَّفوا التاريخ.
ولا أَقول هذا تقويةً ولا تعزيةً ولا تعميةً بل حقيقةً إِليها نركُن كي نَقْوى ونصمدَ ونتشبَّثَ نحن أَيضًا بأَرضنا في جراحها وهشيمها ودمارها، لأَنَّ انهيارَنا يُسْهِمُ في انهيارها. وَلْنَبْقَ مؤْمنين به: بلبنان العنيد في مواجهة العواصف كما في كلِّ تاريخه. فَلْنَقْرَإِ اللوحاتِ الصخريةَ في نهر الكلب. وَلْنَقْرَأْ تاريخَنا بدقَّةٍ واعتزاز. وَلْنُؤْمنْ أَنَّ الأَرزة ليسَت فقط صورةً على بطاقة الهوية، وليست فقط دمْغةً على غلاف جواز السفر، وليست فقط تَغَنِّيًا في القصائد والأَغاني، بل هي وديعةُ أَعمارٍ علينا أَن نحْفَظَها ونُحافظَ عليها.
ما أَقولُه ليس طوباويًّا ولا عاطفيًّا ولا شوفينيًّا ولا ضبابيًّا.. لا. ليس كلَّ هذا بل هو دامغٌ تاريخيٌّ أَقوى من كلِّ عصْف وكلِّ صِدام. وإِذا كان قدَر جغرافيا لبنان أَن تكونَ دولتُنا محاذيةً دولةً لا نعترف بها لكنها تعترف زُورًا بأَنها على أَرض ميعادٍ يَعِدُها زُورًا بالتَوَسُّع حتى أَرضنا، فقَدَرُ لبنان التاريخ أَن يقاوِمَ ليَبْقى يواجه الريح كما أَرزُنا قاوَمَ كلَّ ريح في التاريخ.
هذه هي عبقريةُ لبنانَ الوطنِ المنكوبِ لا بأَرضه ولا بأَهله بل المنكوب بسُلطة رَخْوَة منذ عقود، تولَّاها منذ سنين مَن لا يستاهلون الحُكْم ولا الوطن، فكانوا في معظمِهم أَقزامًا يَتَطاوَلُون على مقَدَّرات دولةٍ جعلُوها مزرعةً لهُم ولنَسْلِهم ولَم يَبْنُوا الدولة كما يجب أَن تكون لمواجهة الريح، فانهارت الدولةُ وطارَت هربًا رفوفُ السنونو من أَبنائنا، ومَن باقُون هنا يَلْعَنون الدولةَ لكنهم لا يَلْعنون شعبَ الوطن، شعبَنا البطل، لأَنهم يَعْلَمون أَن الوطن العظيمَ قيمةٌ في قلوبنا وأَمانةٌ في وجداننا وليس حصيلةَ هذه الدولةِ العاقر.
خلاصُنا عند انقشاع الغبار عن هذا الدَمار الحجَريّ والنفْسيّ؟
خلاصُنا ليس بخُلاصات مجلس الأَمن، ولا بقرارات الأُمم المتحدة، ولا بمساعدات الدُوَل المانحةِ دولةً جعلَها أَهلُها دولةً شَحَّادة. خلاصُنا بنا نحن، ونحن فقط، أَن نُقدِّمَ غدًا في الانتخابات المقْبِلة مَن يتولَّون الحكْم بنقاءٍ وشرف، ونُسْقِطَ من صندوقة الاقتراع فاسدين يوضاسيين أَوصلُوا الدولةَ إِلى الدَمار، فيحترمَنا مجلسُ الأَمن وتحترمَنا الأُممُ المتحدة وتحترمَنا الدُوَلُ المانحة.
هكذا نربح الوطن “الزْغَيَّر وْوِسْع الدني”. فَلْتَتَوَقَّفْ في الإِعلام والتواصل موجاتُ النَدْب والعزاء، وَلْتَبْقَ فقط موجة الإِيجابيات التي تَبْني نفوسًا لبنانيةً تَستحقُّ لبنانَ الوطن.
لذا عَنْوَنْتُ حديثي اليوم: “لا تنْدُبوه كأَنَّه مات فهو لن يموت”. وَلْيَكُن هذا إِيماني وإِيمانُكم، فَلْنَطْرُدِ الفاسدين في هذه السُلطة، وَلْنُرَمِّم هذه الدولة بمجموعةٍ جديدةٍ من أَكفياء وأَنقياء وجديرين، وما أَكثرَهم هنا ولدى الـمَهَاجر اللبنانية في العالم.
هكذا نستحقُّ الحياة، ونستحقُّ المستقبل، ونستحقُّ الوطن، ونستاهلُ أَن نكونَ أَبناءَ لبنان.