سقطت التسوية الرئاسية بعد ١٤ يوماً من بدء الحراك في الشوارع والطرقات. ١٤ يوماً هددت بجرف كل شئ في هذا البلد المضطرب منذ سبعينات القرن الماضي.
قد يحلو لبعض المحللين النظر الى استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري بصفتها امرٌ يحصل وهو مسبوق بعشرات الاستقالات للحكومات. وقد يحلو لبعض اخر تشبيهها باستقالة المرحوم الرئيس عمر كرامي في العام ٢٠٠٥، لكن الامر مختلف.
استقالة الحريري هي نهاية مسار في بيروت، مسارٌ خطته تسوية إقليمية دولية عام ٢٠١٦، مهدت لما عرف بالتسوية الرئاسية، قضت بتقاسم السلطة بين اطراف محلية متناقضة، وسمحت بوصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية.
لقد حصلت محاولة سعودية لسحب الحريري من التسوية عام ٢٠١٧ لم توافق عليها الدول الكبرى وعاد الحريري رئيساً لحكومة التسوية الرئاسية. بعدها جرت الانتخابات النيابية على القانون النسبي الذي اختبر للمرة الاولى في بيروت وأدى الى اختلال كبير في ميزان القوى في مصلحة الفريق الاخر في التسوية.
بالامس خرج الرئيس الحريري قائلاً أنه لم يجد تجاوبا مع طروحاته للحل. هل كانت له طروحات غير الورقة الاقتصادية؟ وما علاقة طروحاته بمطالب الشارع؟ ام ان طروحات الحريري صبت في صلب الصراع الجيوسياسي على لبنان؟
كيف حوّل بعض من في الشارع وبتغطية اعلامية واسعة بعض من في السلطة الى ابطال؟ كيف يطرح الشارع شعار “كلن يعني كلن” ثم يتم التعامل ببرودة لافتة اولاً ثم بحماسٍ لاحقاً مع احتمال عودة الحريري على راس حكومة جديدة؟ اليس الرجل جزء من “كلن”؟
“كلن” اجمعوا على اتهام بعضهم البعض بالنهب وافلاس الدولة. “كلن” اعتبروا ان هناك من عرقل مشاريعهم بما يوحي انها هي نفس مشروع الحراك. لقد اتقن الحريري الاشارة الى العرقلة عند اعلان ورقته وعند استقالته ولكن اي مشاريع بالضبط؟
ان الانتفاضة التي حصلت هي تركيب معقد من اربع اختناقات متزامنة مع هجوم جيوستراتيجي:
1- ثورة شعب مقهور فقد الثقة بقيادته السياسية وفقد الامل بالمستقبل حيث يتحرك القهر بين اولئك المغتصَبين اقتصاديا” (الفقراء وقاع المجتمع) واولئك الخائفين على انحدار موقعهم الاجتماعي (الطبقة الوسطى) والاغنياء الذين وجدوا ان البلد لم يعد يشكل لهم اطارا امنا” للعيش والعمل.
2- ثورة شباب لم يعد يقبل بهذه المهانة وقتل الطموح التي يعيشها في الوقت الذي يراقب معه طرق حياة والتطور الشخصي لاقرانهم في اماكن اخرى من العالم.
3- ثورة “زبائن” السلطة الذين وعدوا ب”المن والسلوى” بعد الانتخابات فلم يجدوا الا محاولات تشليحهم ارزاقهم ومكتساباتهم.
4- ثورة كرامة طائفية احست باستفزاز واسع مع تحويل قياداتها الى توابع سياسية، او هكذا نجحت الاخيرة في تظهير نفسها، في ظل استعلاء مطعّم بالمناورات الشعبوية الطائفية لدى بعض ممثلي الطوائف الاخرى.
تزامن ذلك مع كباش اقليمي حاد ومتفجر وجد طرفه الدولي في ما يحصل (الارجح ان الولايات المتحدة قد نجحت في توقعه بشكل ممتاز على عكس اخصامها) فرصة سانحة لتعديل ميزان قوى السلطة في لبنان.
الاختناقات الجيوستراتيجية في مآلات الوضع الحالي
هناك اربع مخارج ممكنة للوضع الحالي:
1- الاتفاق على حكومة تكون نتيجة تنازل او تضحية ما تسمح بتعديل ميزان القوى ضمن مجلس الوزراء (تكنوقراطي او غيره) بما يعكس توازنا” اوضح بين فريقي الصراع، وهناك ضغط قوي لاضعاف فريق رئيس الجمهورية كونه الجزء الذي يثقّل حصة خصوم الولايات المتحدة.
2- الغرق في الفراغ الحكومي وغدم التشكيل لمدة غير منظورة سواء تم تكليف رئيس للحكومة ام لا، وسواء تم تكليف الرئيس الحريري نفسه ام لا. هذا سيناريو يفتح على احتمالات مرعبة ليس اقلها الانهيار الاقتصادي، واستخدام هذا الانهيار كورقة رئيسية في الصراع الدائر. قد ينزع هذا السيناريو الى تفكك اوصال الدولة والفوضى التي سيعمل كل طرف على ادارتها بالحد الادنى من الخسائر.
3- الذهاب الى حكومة اكثرية نيابية، تقرر بموجبها هذه الاكثرية ان تحكم، وهو ما تحاشته منذ الانتخابات النيابية الاخيرة. هذا سيناريو يحمل مخاطر عالية جدا” ويحتاج الى ادارة موثوقة ومضحية بالمصالح الحزبية والشخصية ومستعدة لتقديم فريقها لمحاكمات سوء استغلال السلطة والفساد والاثراء غير المشروع قبل او بالتوازي مع غيرها من القوى الخصمة. يقوم الفريق الحكومي بوضع قيود صارمة على حركة راس المال وباستدراج مشروع نهوض بالبنية التحتية تقوده دول غير غربية مع تحدي الحفاظ على السلطة المركزبة والامن. بغير ذلك سيفتح هذا السيناريو ابواب جهنم على القوى الحاكمة والبلد.
ان اي حكومة جديدة (بما في ذلك حكومة الاكثرية النيابية) ستمثل مسعى لتغير جيوستراتيجي في الاطار الذي يوجد فيه لبنان اليوم. حكومة الاكثرية يجب ان تكون مستعدة لحصار اقتصادي وسياسي غربي مؤلم ومزمن، ومهما كان شكل الحكومة في الاحتمال الاول، فان الفقرة الخاصة بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي للبنان “بكافة الوسائل المشروعة” سوف توضع على الطاولة وقد تفجر تشكيل اي حكومة جديدة. (يستبعد هذا التحليل امكان تسليم السلطة للجيش في الوقت الحالي كونه غير مطروح لدى الفرقاء الفاعلين).
4- حكومة انتقالية تعكس برنامج للحراك الشعبي وهي تحتاج الشروط التالية:
اولا: تطوير برنامج سياسي انتقالي يتجاوز الشعارات الى بنود مطلبية محددة، تتركز حول استعادة الاموال المنهوبة بقوانين شفافة، شاملة وعصرية. حكومة ذات مهمة مركزية رئيسية وادارة يومية نظيفة.
ثانيا: ان تنأى بنفسها في البيان الوزاري عن الصراع حول سلاح حزب الله، وتبقي القديم على قديمه في هذا المجال كي لا تضيع الثورة في الصراعات الجيوستراتيجية.
ثالثا: اقرار قانون انتخابات نسبي عصري غير معروف النتائج سلفا” ويسمح بدخول الشباب اللبناني دائرة القرار من الباب الواسع بغض النظر عن تاريخ اجرائها.
رابعا” استمرار الضغط المطلبي في الساحات من اجل اقرار مشاريع برنامج الحراك في المجلس النيابي، ومنع قوى السلطة بكافة تلاوينها من تحوير الصراع نحو صراع بين الطوائف والمال والسلطة. هل توجد فرصة حقيقية لهكذا حكومة؟ لا أملك جواباً.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا