ازمة لبنانالاحدث

لبنان بانتِظارِ ثَورَةِ “الرُبُع سَنت” | بقلم د. بيار الخوري

في الليلة التي سبقت 17 تشرين الاول (أكتوبر) 2019، كان لبنان يبدو كأنه يعيشُ في حالةٍ من التوازُنِ الهَشّ، حيث ازدحمت المقاهي والمرابع الليلية بالناس الذين أنفقوا بطاقات ائتمانهم بسخاء. في الظاهر، بدا البلدُ منذ فترةٍ مُستَقِرًا إلى حدٍّ ما، مُستَفيدًا من إعادةِ الإعمار بعد حرب تموز (يوليو) 2006 والأزمة الاقتصادية العالمية التي حَوَّلت تدفُّقاتٍ نقدية كبيرة إلى لبنان كونه نجا من مقصلة الأصول المُشتقّة. الأمان النسبي الذي شعر به اللبنانيون حينها لم يكن إلّا قشرةً رقيقة تُغطّي أزماتٍ مُتراكمة، حيث كانت الطبقة السياسية تُعاني من اهتراءٍ واضح، لكنها لا تزالُ قادرة على إنتاجِ حكوماتٍ بدعمٍ عربي ودولي يُحافظُ على الحدِّ الأدنى من الاستقرار. رُغمَ ذلك، كانت البلاد تتحرّكُ على وَقعِ القلقِ المُتزايد من المستقبل، وهو قلقٌ دفينٌ تَحوَّلَ مع مرور الوقت إلى شرارةِ ثورة.

في تلك الفترة، كان تصنيفُ لبنان المالي والاقتصادي لا يزالُ عندَ مستوياتٍ مقبولة نسبيًا، مما أتاحَ للنظام السياسي والنُخَب الحاكمة وقتًا إضافيًا لطمأنة المجتمع الدولي والمواطنين على حدٍّ سواء. ومع ذلك، كانت الأزمات الاقتصادية تتصاعدُ بشكلٍ غير مرئي، بينما كانت الطبقة السياسية تغرق أكثر في الفساد وسوء الإدارة. عندما اندلعت الاحتجاجات في العام 2019 بسببِ فَرضِ ضريبةٍ على مكالمات تطبيقات الإنترنت، والتي بلغت قيمتها حوالي 6 سنتات يوميًا، ظهر مدى هشاشة النظام بأكمله. تلك الـ6 سنتات أصبحت رمزًا للشرارة التي فجّرت الغضب الشعبي، لكن بعد خمس سنوات من الانهيار المستمر، يبدو أنَّ ما كانَ يحتاجُ إلى 6 سنتات في 2019 لا يحتاج اليوم إلى أكثر من شرارة “رُبعِ سنت” لتفجير موجة جديدة من الغضب.

اليوم، الوضع مختلف تمامًا، إذ لم يَعُد لبنان يحتفظُ حتى بواجهةٍ من الاستقرار. التصنيفُ الاقتصادي انحدَرَ إلى مستوياتٍ كارثية، وأصبح البلد على اللائحة الرمادية، ما يعكسُ فقدان الثقة الدولية بقدرته على الإصلاح. لبنان لم يَعُد يُمثّلُ حتى فرصة استثمارية ضئيلة، بل تحوّلَ إلى عبءٍ اقتصادي على مواطنيه وداعميه على حدٍّ سواء. في ظلِّ هذا الانهيار، فَقَدَ اللبنانيون كل الثقة في قياداتهم السياسية.

في العام 2019، كان السيد حسن نصرالله لا يزال هنا بنفوذه الشعبي الطاغي لدعوة أنصاره للانسحاب من الشارع بناءً على وعود حكومة الرئيس سعد الحريري بإصلاحاتٍ لم تتحقّق. كذلك، الرئيس ميشال عون كان لا يزال في بعبدا، مُدافِعًا عن “العهد المسيحي القوي”، واعتبرَ أنَّ الثورة كانت مُوَجَّهة ضده. لكنه اليوم خرج من بعبدا، وقد انتهى معه ذلك الخطاب الذي كان وَعَدَ المسيحيين بالقوة. الحريري، الذي وَعَدَ بالورقة الإصلاحية، انسحبَ من المشهد السياسي تمامًا، بينما سمير جعجع، الذي انسحب من الحكومة في بداية الثورة، أصبح خارج كل الحكومات منذ العام 2019، بدون أن يكونَ قادرًا على تغييرِ ما كُتِب.

في العام 2019، لم يكن اللبنانيون قد شهدوا بَعد خمسَ سنواتٍ من الفشل والانهيار المتتالي. كان هناكَ أملٌ في أن تكونَ الثورة قادرةٌ على إحداثِ تغيير، ولكن ذلك الأمل تبخّرَ تدريجًا مع تفاقُم الأزمات. اليوم، لم يَعُد الوضعُ بحاجةٍ إلى قراراتٍ استفزازيةٍ كبيرة أو صغيرة أو ضرائب جديدة حتى بحجم 6 سنتات لإشعال الغضب الشعبي، بل يكفي “رُبع سنت” ليُعيدَ إشعال شرارة الاحتجاجات، لأنَّ الشارع اللبناني أصبح أكثر هشاشةً وقبولًا للإنفجار بعد سنواتٍ من المُعاناة.

مع غيابِ القيادات القادرة على تقديمِ حلولٍ أو حتى وعود، وغيابِ أيِّ رؤيةٍ واضحةٍ للخروج من الأزمة، خصوصًا بعد الحرب الإسرائيلية المدمّرة في الخريف، يبدو أنَّ لبنان يتحرّكُ نحو المجهول خصوصًا إذا فشل البرلمان في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية والاتجاه الواضح نحو تشكيل حكومة تقوم بإصلاحٍ جذري يمسُّ أوَّلًا مصالح الطبقة السياسية. الأمل الذي كان موجودًا في 2019 بات اليوم حلمًا بعيد المنال، والقلق الذي كان يدفع الناس إلى الشوارع آنذاك أصبح اليوم حقيقة يعيشها كل مواطن، وسط شعور عميق بالعجز والخذلان.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

د. بيار بولس الخوري اكاديمي وباحث، خبير في الاقتصاد والاقتصاد السياسي، يعمل حاليا مستشار ومرشد تربوي ومستشار اعمال. عمل خبيراً اقتصادياً في مجموعة من البنوك المركزية العربية وتخصص في صناعة سياسات الاقتصاد الكلي لدى معهد صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة. له اكثر من اربعين بحث علمي منشور في دوريات محكّمة دولياً واربع كتب نشرت في الولايات المتحدة والمانيا ولبنان تختص بإقتصاد وادارة التعليم العالي، ناشر موقع الملف الاستراتيجي وموقع بيروت يا بيروت المختص بالادب. منشأ بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة بوديو. كاتب مشارك في سلسلتي "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط" و" ١٧ تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان" المتوفرتان عبر امازون كيندل. في جعبته مئات المقابلات التلفزيونية والاذاعية والصحفية في لبنان والعالم العربي والعالم ومثلها مقالات في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية الرائدة وهو خبير في شئون مبادرة طريق الحرير والشؤون الاسيوية. يشغل حالياً مركز أمين سرّ الجمعية الاقتصادية اللبنانية وعميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى