لبنان: ذهبٌ بلا غطاء… ونقدٌ بلا سيادة| بقلم المحامي د. باسكال فؤاد ضاهر

في عالم يعصف به التوتر الاقتصادي والجيوسياسي، تتزايد الدعوات لإعادة النظر في النظام النقدي العالمي. وسط شعور يوحي بإمكانية تراجع نفوذ الدولار الأميركي مترافقاً مع تنامي التحركات الدولية الرامية إلى تحدّي هيمنته. لذا بدأ الحديث يتزايد عن إمكانية العودة إلى نظام نقدي مشابه لما كان عليه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية: “نظام بريتون وودز 2″. لكن، هل يمكن حقاً العودة إلى قاعدة الذهب التي كانت أساساً لتلك الحقبة؟ وهل يمتلك العالم اليوم القدرة على بناء نظام مالي عالمي جديد يحقق العدالة والاستقرار بعيداً عن صراع العملات وهيمنة الدولار؟
في هذا السياق، تتعدد الآراء حول إمكانات وفشل هذه العودة، لكن ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها: النظام المالي العالمي اليوم أصبح أكثر تعقيداً من أن يُختصر في قاعدة ترتبط بأصل واحدة. فقبل أن نتطرق إلى إمكانية إحياء “بريتون وودز 2″، من الضروري أن نفهم أولاً الأسس التي قام عليها هذا النظام وكيف تَفكك، وأسباب تعذّر العودة إليه في ظل تحولات الاقتصاد العالمي الراهنة في أعقاب الفوضى النقدية التي عصفت بالعالم بين الحربين العالميتين.
كيف انتهى عصر الذهب النقدي؟
وُلد نظام “بريتون وودز” عام 1944 في منتجع يحمل الاسم نفسه في ولاية نيوهامبشر الأميركية. جمعت الاتفاقية 44 دولة حليفة خرجت لتوّها من أتون الحرب العالمية الثانية، واتفقت على إنشاء هيكل نقدي جديد على أساس قاعدة الصرف بالدولار الذهبي واعتماد مقياس التبادل بالذهب. وبذلك تحوّل الدولار الأميركي إلى عملة الاحتياط الدولية والمحور الرئيسي للنظام المالي العالمي. وقد فرض هذا النظام على الدول أن تحدّد قيمة عملتها بالنسبة إلى الذهب أو إلى الدولار، وعلى أساس وزن ثابت، باعتبار أن كل دولار أميركي يساوي 0.88671 غراماً من الذهب.
ولتعزيز عملة الاحتياط الدولية الجديدة، التزمت الولايات المتحدة الأميركية بتبديل الدولارات الورقية التي بحوزة المصارف المركزية الأعضاء بالذهب، وعلى أساس سعر محدّد ثابت (35 دولاراً للأونصة). وقد سمح هذا النظام للعملات الوطنية بالتحرك ضمن هامش محدد حيث مثّل تحوّلاً استراتيجياً من “قاعدة الذهب” التقليدية إلى نظام صرف هجيني يمنح الدول استقراراً نسبياً دون التقيّد الكامل بتحويل العملات إلى ذهب.
ومع توسّع الاقتصاد الأميركي وتحوّله إلى “مصرف العالم”، بدأ التناقض البنيوي في النظام يظهر وفق ما أشار إليه الاقتصادي البريطاني المعروف “كينز”. وقد كان أكثر من برع في شرح هذا التناقض هو الاقتصادي الأميركي من أصل بلجيكي، الأستاذ “روبرت تريفين”، وهو ما بات يُعرف بمعضلة تريفن (Triffin Dilemma) . ويكمن مفاد نظريته بأن نظام “بريتون وودز” محكوم بالفشل، والسبب هو أن الدولار لن يتمكن من البقاء على قيد الحياة كعملة احتياطية في العالم، دون أن تعاني الولايات المتحدة من عجز متزايد.
وبعد فترة، انهار النظام فعلياً عام 1971 بقرار الرئيس ريتشارد نيكسون، أو ما يُعرف بصدمة نيكسون، حين أوقف بقرار ذاتي قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، منهياً بذلك عصر “الذهب النقدي”، وممهّداً لعصر العملات العائمة، حيث باتت قيمة العملة تُحدّد وفقاً لقوى السوق لا لوزن المعدن الأصفر. وهكذا تم التحوّل من نظام الربط الثابت إلى نظام الربط المرن.
هل يمكن للعالم أن يعيد إحياء “بريتون وودز”؟
في ظل الأزمات المتتالية التي يشهدها النظام المالي العالمي، عاد الحديث عن الحاجة إلى نظام نقدي عالمي أكثر استقراراً وعدالة، يعيد ربط العملات بالذهب أو بأصول مادية ملموسة. لكن، هل هذا ممكن فعلاً؟
الجواب الواقعي الراجح هو أن العودة تكتنفها العديد من الصعوبات التي فرضتها قواعد نظام السوق المالي الدولي الذي تطوّر منذ العام 1970. وهو ما قد يحول دون إمكانية إحياء نظام “بريتون وودز” أو إنشاء نسخة جديدة منه. ويمكن حصر الأسباب تلك بما يلي:
- أولاً، يغيب اليوم ما كان متوفراً عند ولادة النظام في عام 1944. أعني به التوافق السياسي الدولي. حينها، اجتمعت الدول على أنقاض الحرب لتأسيس منظومة مالية جديدة تحمي السلم العالمي وتعزز التجارة والاستقرار. أما اليوم، فيسود التناحر الجيوسياسي بين القوى الكبرى، من الصين وروسيا إلى الولايات المتحدة وأوروبا، ويصعب تصوّر إجماع دولي على أي نظام نقدي موحّد.
- ثانياً، لا تتوزع الاحتياطات الذهبية في العالم بشكل عادل أو متوازن. تمتلك الولايات المتحدة وأوروبا الحصة الأكبر من الذهب العالمي، وهو ما يضع البلدان الناشئة والنامية في موقع تفاوضي ضعيف، ويفقد النظام أي شرعية قائمة على العدالة بين الشركاء الدوليين.
- ثالثاً، تغيّر حجم وتعقيد الاقتصاد العالمي بشكل جذري. فعصر العولمة، وانفتاح الأسواق، ونمو التجارة الدولية، جعل من المستحيل فعلياً ربط العملات بالذهب. فالقيمة الإجمالية للذهب الموجود عالمياً تُقدّر بحوالى 18 إلى 19 تريليون دولار، في حين يتخطى الناتج المحلي الإجمالي العالمي 115 تريليون دولار، وتبلغ قيمة التجارة الدولية حوالى 33 تريليون دولار سنوياً (بحسب بيانات الأمم المتحدة لعام 2024). وبالتالي، لم يعد الذهب قادراً على تغطية حجم النشاط الاقتصادي العالمي، لا حسابياً ولا وظيفياً.
- رابعاً، أدى تفكك نظام “بريتون وودز” عام 1971، وانتقال العالم إلى أنظمة الصرف المرنة، إلى تعزيز الهيمنة الأميركية على النظام المالي العالمي. فالولايات المتحدة أصبحت تتحكم بنظام التحويلات المصرفية العالمية (SWIFT)، ولها الكلمة العليا في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبالتالي، فإن العودة إلى نظام يُضعف من سطوة الدولار أو يقيّد مرونة الاقتصاد الأميركي، ليس من مصلحة واشنطن ولن يكون ضمن أولوياته.
- خامساً، هناك بُعد استراتيجي في حرية السياسة النقدية. فربط العملة بالذهب يجعلها ثابتة ويمنع الدول من التلاعب بسعر صرفها. في حين أن العديد من الاقتصادات — مثل الصين — تستخدم سياسة تخفيض قيمة العملة (devaluation) كأداة لتعزيز صادراتها. وهذه القدرة على التحكم في سعر الصرف تُعتبر ميزة تنافسية لا ترغب الدول بالتخلي عنها. إضافة الى ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أن الذهب قد تحوّل من أصل بقيمة ثابتة إلى أصل استثماري يخضع لتبدلات في السعر وفق حالة ومزاج هذا السوق، ويخضع بالتالي لعمليات مضاربة، الأمر الذي سيحول دون إعادة اعتماده كأصل مرجعي ثابت. علماً بأن العالم قد تعرّض في العام 1968 إلى أزمة نتج عنها وجود سعرَين للذهب، حين قررت فرنسا استبدال الفرنك به. وقد تدخّل في حينه صندوق النقد الدولي وخلق في العام 1970 الاحتياطي المساعد للدولار بهدف حلّ المشكلة التي طرأت من خلال التخصيص الأول لحقوق السحب الخاصة.
- سادساً، إن مسألة الديون الدولية المحررة بمعظمها بالدولار الأميركي قد تقف حائلاً أمام اعتماد نظام نقدي جديد يؤدي إلى زيادة أو إنقاص الالتزامات العقدية، لا سيما وأن قواعد التعاقد الدولي تلزم المدين بتسديد دينه وفق عملة العقد المحرر سنداً للمبدأ القائل بأن العقد هو شريعة المتعاقدين. وبالتالي، فإن أي تبديل بعملة العقد لن يحقق الإيفاء بالنظر إلى الفريقين المتعاقدين.
- سابعاً، تحاول بعض القوى الصاعدة، مثل الصين وروسيا، كسر هيمنة الدولار من خلال تكتلات كـ”البريكس”، والسعي نحو إصدار عملة موحّدة. إلا أن هذه المبادرات تصطدم بتناقضات داخلية كبيرة، منها غياب الثقة، عدم توازن الاقتصادات، وافتقار تلك الدول إلى البنية القانونية والمؤسساتية التي تشكل دعامة لأي عملة إحتياط دولية. ناهيك عن أن أوروبا نفسها تعاني انقساماً بين شمالها وجنوبها، في حين تبحث دول “الجنوب العالمي” عن استقلال اقتصادي عبر آليات بديلة مثل البنوك التنموية الإقليمية، ما يُظهر أن العالم اليوم يسير نحو مزيد من التعددية المالية لا نحو وحدة نقدية.
نحو نظام نقدي هجين… ماذا عن لبنان؟
أمام كل هذه التحديات، قد يكون الحل الأكثر ملاءمة هو نظام نقدي “هجين – مرن”، يجمع بين تغطية جزئية بالذهب أو السلع الاستراتيجية — مثل المعادن النادرة والنفط — بحسب خصوصية كل اقتصاد، وبين اعتماد آليات مالية جديدة أكثر مرونة وحيادية. وقد يكون للبنان في هذا النظام دور محوري وأساسي في حال حافظ على احتياطاته من الذهب ونوعها، واستدرك أيضاً أن أي طرح يتصل بالذهب وبأي صيغة كانت سيجرّده من الأصل الوحيد الملموس المتبقي لديه وسيؤدّي إلى تدهور عامل الثقة به أكثر مما هو عليه اليوم.
بعد أزمة 2008 المالية طرح حاكم البنك المركزي الصيني “تشو شياوان” فكرة إنشاء نظام مالي عالمي جديد تكون فيه الـ SDRهي العملة الاحتياطية العالمية الأساسية. وقد اعتبرها بمثابة الضوء في النفق من أجل إصلاح النظام النقدي الدولي.
وفي حزيران من العام 2024 اعتبر الباحث الإقتصادي والمسؤول السابق في وزارة الخزانة الأميركية ومجلس الاحتياطي الفيدرالي، إدون ترومان، في دراسة له نشرت على موقع الـ IMFبأن حقوق السحب الخاصة (SDR) أثبتت قيمتها بوصفها أداة لإدارة الأزمات. مضيفاً أنه ينبغي لصندوق النقد الدولي البناء على هذا النجاح ومواصلة تعزيز دور حقوق السحب الخاصة في النظام النقدي الدولي من خلال استئناف عمليات التوزيع السنوية ورفع الفائدة وتشجيع البلدان الأعضاء التي لديها حيازات زائدة من حقوق السحب الخاصة على استخدامها.
وقد يكون أساس تلك الطروحات مؤسس الاقتصاد الكينزي، جون كينز، حين اقترح إنشاء عملة دولية تدعى BANCOR بدلاً من الاعتماد على الدولار والذهب في اتفاقية “بريتن وودز”.
لكن يبقى السؤال: هل يستطيع العالم فعلاً تبنّي هذه الوحدة كعملة عالمية موحدة؟ الجواب لا يزال معلقاً، ولعلّ الحل ليس في إعادة إنتاج “بريتون وودز 2” كنسخة مكررة من الماضي، بل في بلورة نظام جديد يعكس تعددية القوى الاقتصادية، ويضمن الحدّ الأدنى من العدالة النقدية والسيادية.