عندما يفتقد المسؤولون لحسِ قراءةِ ألف باء الأدبيَّاتِ الوطنيَّةِ تُصبحُ الثورةُ لزامًا لا قدرًا | كتب العميد الدكتور عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
تحت وَطأةِ المآسي التي لَحِقَت باللُّبنانيين، وفي ظِلِّ مُعاناتِهِم اليَومِيَّةِ طِوالَ العامِ المُنصَرِم ِوما تَحمَّلوهُ خِلالَ الأَعوامِ العِجافِ التي سَبقته، يَستَقبِلُ اللبنانيون العام 2022، بقليلٍ من الأَمَلِ والكَثيرِ من التَّوجُّسِ مِمَّا تُخَبِّؤهُ لَهُم الأَيامُ والسُّنونُ القادِمَة.
لكَم هو مُحزِنٌ أن تَمُرَّ علينا السُّنونُ ونحنُ نَتخَبَّطُ منذ ولادَتِنا بأزماتٍ مُتلاحِقَة، فما نَكادُ نَخرُجُ من مُستَنقعِ أزمَةٍ إلاَّ ونَدخُلَ في أتَونِ أزمَةٍ أُخرى أشَدُّ وأقسى.هذه هي حالُ اللبنانيين منذ أن اندَلعَت شَرارةُ الحَربِ الأهلِيَّةِ عام 1975 ولمَّا تنتهي مُعاناتُهُم بعد. على امتدادِ ما يُناهِزُ ثَلاثَةَ عُقودٍ من الزَّمَنِ استَطاعَ اللبنانيُّون ولو على كَبَدٍ تَجاوزَ وَيلاتِ الحُروبِ ومآسِيَها، إلاَّ أن ما يَشهَدَهُ لبنان اليَومَ يَفوقُ إمكانِيَّاتِ بَني البَشَرِ على التَّحمُّلِ نَفسِيَّاً ومادِّيَّا واقتِصادِيَّا ومَعيشِيَّا، تحت وَطأةِ سَيلٍ من الأزَماتٍ السِّيَاسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ والأمنِيَّةِ الشَّائِكَةِ المُتَشابِكَة، وفي ظِلِّ تَحكُّمِ زُمْرَةٍ حاكِمَةٍ مُتحَكِّمَةٍ بمَصيرِ البِلادِ والعِباد.
وإذ نطوي صفحة العام 2021 ومع إطلالَةِ العام 2022 وفقَ التَّوقيتِ الميلادي، نرى أننا جميعاً مَدعوونَ، كأفراد ٍوأُسَرٍ ومللٍ طائفيَّةٍ أو مذهبيَّةٍ وإدارتٍ ومؤسَّسات خاصَّةٍ أوعامَّة، وحتى على مُستوى الدَّولةِ كَكُلٍّ، للوقوفِ وَقفَةَ تأمُّلٍ، وكُلٌّ من موضِعِهِ،لإجراءِ جَولَةٍ تَقييمِيَّةٍ موضوعِيَّةٍ ومُتَجَرِّدَةٍ شامِلَةِ، يتبَعها نقدٌ ذاتيٌّ بنَّاء، وذلك انطِلاقاً من استِذكارِ ما كُنَّا عليه، والتَّفكيرِ بما أصبَحنا عليه الآن، واستِقراءِ ما سنُمْسي عليه في المُستَقبلِ المَنظور. كُلُّ ذلك كي لا نُوَرِّثَ أبناءَنا والأجيالَ القادِمَة المَزيدَ من الإحباطِ واليأسِ على غِرارِ البُؤسِ الذي أوقَعنا أنفُسَنا به.
تدعونا الموضوعيَّةُ للإعتِرافِ بأن لُبنانُنا في مَخاضٍ عَسير، فبَعدَ أن كان مَنارَةَ الشَّرقِ تُضربُ الأمثالُ برقيِّهِ ونهضتِه، ها هو يُساقُ إلى رَصيفِ الدُّولِ الفاشِلة، بأداء مسؤوليهِ وعلى مرأى ومسمع ورضىً من كُلِّ أفرادِ الزُّمرةِ الحاكمة. وثمَّةَ من يقولُ أنهم نجحوا في إدخاله إلى حوضِ الدُّولِ الفاشِلةِ ولم يبقَ سوى تَحديدِ منزلتنا في نادي تلك الدُّول.
ها هي دولتنا دَولَةٌ فاشِلَةٌ بامتيازٍ وَفقَ كُلِّ المَعاييرِ المُعتَمَدَةِ عِلمِيَّاً وسِياسِيَّاً في تَقييمِ أداءِ الدُّوَل. نعم إنها لدولةٌ فاشلةُ لم تعد بحاجةِ إلى شهادةٍ تثبتُ ذلك، مُؤشِّراتُ فَشلِ عَديدَةٌ تُؤكِّدُ صوابيةَ التَّوصيف، نُشيرُ إلى أهمها وعلى سَبيلِ المِثالِ لا الحَصْر:
أليس لبنانُ دَولةٌ مَنقوصَةُ السِّيادَةِ؟ ويُردُّ ذلك لعَجزِها عن التَّحكُّمِ بقراراتِها ومواقِفها السِّيادِيَّة، لوجودِ قِوى داخِلِيَّةٍ وأُخرى خارِجيَّةٍ تُملي على الدَّولةِ اللبنانيَّة خياراتِها داخِليَّاً ودوليَّا.
أليس لبنان دَولةٌ قاصِرةٌ عن فَرضِ سَيطرَتِها على كامِلِ إقليمِها البَري والبَحري؟ ويُعزى ذلك لوجودِ بُؤرٍ جُغرافِيَّةٍ خارِجَ سَيطَرَةِ أَجهِزَةِ الدَّولَةِ الشَّرعِيَّة، منها مُخيَّماتُ الأُخوةِ اللَّاجِئينَ الفِلسطينيين، وبعضِ المناطِقِ التي تَرزَحُ تحت هَيمَنَةِ ميليشياتٍ حِزبيَّةٍ وعَشائرِيَّةٍ، تَعبثُ في الأرضِ فَساداً، وتَرتَكِبُ أفظَعَ أنواعِ وأشكالِ السُّلوكِيَّاتِ الإجراميَّة.
أليس لبنانُ دولةٌ عاجِزةٌ عن حَصرِ وجودِ الأسلِحةِ بقِواها النِّظامِيَّة؟ ويردُّ لوجودِ قِوىً مُسلَّحَةٍ غيرِ شَرعِيَّةٍ لا تأتَمِرُ بالسُّلطاتِ الرَّسمِيَّة، ومثلُها داخلَ مُخيَّماتِ اللَّاجئين، كما لِعَجزِها عن مُعالَجَةِ ظاهِرَةِ انتِشارِ الأسلِحَةِ الفَردِيَّةِ المُتَفَلِّتَة.
أليس لبنانُ دولةٌ مُستباحةٌ؟ لأنَّها على الرَّغمِ من كونها دَولةٌ مؤسِّسةٌ لهَيئةِ الأممِ المُتَّحِدةِ والجامِعَةِ العَرَبيَّةِ لم تَستَطِع وَقفَ الانتِهاكاتِ والاعتِداءاتِ الإسرائيليَّة شِبهِ اليَومِيَّةِ والتي تَستبيحُ مِياهَهُ الإقليمِيَّةِ وأجواءَه، بالإضافَةِ إلى اجتياحِ أراضيهِ وارتِكابِ أفظَعِ أشكالِ إرهابِ الدَّولَةِ على أرضِه.
أليس لبنان دولةٌ مُربكةٌ ومرتبكةٌ؟ لأنها وَقَفَ إلى جانبِ القَضِيَّةِ الفِلسطِينِيَّة واستَضافَ الأُخوَةَ الفِلسطينيين الذين أُخرِجوا عنوةً من أرضِهِم، ولكِنَّهُا عجزت عن الحؤولِ دونَ تَدخُّلِهم في شُؤونِهِ الدَّاخِلِيَّة، الأمرُ الذي تَسبَّبَ في زَعزعَةِ الاستِقرارِ الدَّاخلي.
أليس لبنان دولةُ غير مُستِقرَّة؟ لَطالَما افتَقَدَ إلى الاستِقرارِ السِّياسي والأمني والاجتماعي، ويعزى ذلك لعَجِزهِ عن تَرسيخِ الوِحدَةِ الوَطَنيَّةِ بين مُختَلِفِ مُكوِّناتِه الشَّعبيَّة، وما يَزالُ َ يُعاني من انشِقاقاتٍ سِياسِيَّةٍ حادَّةٍ بين مُختلِفِ تلك المُكَوِّناتِ، على الرَّغمِ من أنَّها تَسبَّبت بفِتَنٍ ونِزاعاتٍ مُسلَّحَةٍ فِئويَّةٍ وطائفِيَّة. كما لعجزِهِ عن تَوفيرِ الحَدِّ الأدنى للمواطنين من مُقوِّماتِ العَيشِ الكَريمِ والأَمنِ الاجتِماعي، والاستِقرارِ الاقتِصادي والمالي والاجتِماعي الخ…
أليس لبنان دَولةٌ منهارةٌ اقتِصاديا؟ ويُردُّ ذلك للسِّياساتِ الخاطِئةِ التي ارتَكَبَتها السُّلُطاتُ اللُّبنانِيَّةُ المُتَعاقِبَةُ مُنذُ نَشأةِ لُبنانَ ولِغايَةِ اليَوم، كما بسبَبِ الحَماقاتِ التي ارتَكَبَها المَسؤولون السِّياسيُّونَ في مَعرَضِ أدائهِم لمَهامِهِم. وما حالَةُ البُؤسِ التي نَعيشُها اليومَ إلاَّ انعِكاسٌ للإخفاقاتِ المُتَكرِّرَةِ التي مُنِيَت بها الحُكوماتُ المُتعاقِبَةُ التي تَوالَت على الحُكمِ منذُ قِيَامِ دَولَةِ لُبنانَ الكبيرِ بحُدودِها الحاليَّةِ المُعترفِ بها دوليَّاً.
أليسَ لبنانُ ذو نظام ساسي مَجهول الهَويَّة؟ نَظَرِيَّاً نظامُ الحكمِ في لبنان جُمهورِي برلُمانِي ديمُقراطِييقومُ على فَصلِ السُّلُطاتِ واستِقلالِيَّةِ القَضاء وفَصلِ الدِّينِ عن الدَّولة، ولكنَّه عَمليَّاً لم تَعرِف أُسُسُ النِّظامِ البَرلُماني قدراً من التَّشوُّهاتِ يُعادِلُ ما شَهِدَتْهُ من انتِهاكاتٍ بحُكمِ المُمارَسَةِ السِّياسيَّةِ في لبنان، من خِلالِ تَبَني الأقطابِ السِّيَاسِيَّينَ في لبنان لنَهْجٍ تَشارُكِي فَريدِ، يَقومُ على المُحاصَصَةِ وتَقاسُمِ المَغانمِ في تَشكيلِ الحُكومَاتٍ وتولِّي الوَظائفِ الهامَّة، كل ذلك تحت عَناوينَ بَرَّاقَةٍ كالوِفاقِيَّةِ والميثاقِيَّةِ. كُلُّ ذلك ناهيكَ عن التَّدخُّلِ في شُؤونِ القَضاءِ، عبرَ تَغليبِ التَّوجُّهاتِ السِّياسِيَّةِ في التَّعيينات عَدا التَّوجُّهاتِ والإملاءات .
أوليس الحكمُ في لبنان يُدارُ بطريقةِ عَشائريَّة؟ للجُمهورِيَّةِ اللُّبنانِيَّةِ دُستورٌ مَكتوبٌ شِبه جامِدٍ (لتَطَلُّبِ تَعديلِهِ مُوافَقَةَ ثلاثَةِ أرباعِ أعضائِه)، إلاَّ أنَّهُ لم تَشهَدِ الدُّولُ قاطِبَةً بما فيها الدُّولُ ذاتِ الدَّسَاتيرِ العُرفِيَّةِ من أعرافَ مُتناقِضَةٍ دُستورِيَّةٍ كما هو الحالُ في لبنان، حيث تَفسيرُ النُّصوصِ الدُّستوريَّةِ مَطاطيَّاً وغُبَّ الطَّلَب، لتَحكُمُ ميولُ الحُكَّامِ الفِئويَّةِ والعُنصُريَّةِ ونَزَواتِهِم الشَّخصِيَّة.
لما العَجَبُ والاستِغراب، أليست المُمارَسةٌ السِّياسِيَّةُ في لبنان غيرِ مُتَّزِنَةٍ؟ ألم تُنتِجُ نِظامَاً فاسِدًا أقرَبُ إلى الزَّبائنِيَّةِ وتَقاسُمِ المَغانم؟ ألم يتَكرَّسَ هذا النَّمطُ السِّياسيُّ بحُكمِ المُمارَسَةِ كأعرافٍ غيرِ دُستورِيَّة غير مَسبوقةِ؟ ألم يُنتِجُ الأداءُ السِّياسيُّ نِظامَاً سِياسِيَّاً مَسِخاً يَقومُ على تَحاصُصِ المَناصِبِ الأساسِيَّةِ طائفيَّا ومَذهَبِيَّا، وتَقاسُمِ الوَظائِفِ الهامَّةِ عائلِيَّاً؟ ألم تَصبِحُ إدارةُ الحُكمِ في لبنان أُنموذجاً سِياسِيَّاً رَديئا يُضْرَبُ به المَثل؟
نخلصُ من كُلِّ ما أوردناه للقَولِ أن حالَةِ الإخفاقِ السِّياسي التي يَشهدُها لبنان واللبنانيون اليوم ما هي إلَّا نتيجةٌ حَتمِيَّةٌ لإدارةٍ سياسيَّةٍ عشوائبَّةٍ، قامت على تَهميشِ نمطِ التَّفكيرِ الاستِراتيجي، وإغفالِ مَنهَجِيَّةَ ادارَةِ الأزَمات، ومُقارَبَةِ المَسائلِ المَطروحَةِ بمنهَجِيَّةِ ردَّاتِ الفِعلِ التي تَحكُمُها قَرارات مُرتَجلةٌ وربَّما مُغامراتٌ غيرِ مَدروسَةٍ ولا مَحسوبَةِ النَّتائج.
إن لبنان يُعاني منذُ نشأتهِ من افتقارِ مسؤوليهِ لمُقوِّماتِ التَّفكير الاستراتيجي، ولانعِدامِ الرُّؤيَةِ الاستراتيجِيَّةِ لدى مُعظمهم، ولتغييبٍ كُلِّيٍّ للمَشروعات ِالاستراتيجِيَّة. كماأن لبنان اليومَ في هذا المجالِ يفتقِدُ لسِياسيينَ يُعيرُون الاهتِمامَ اللَّازِمِ للتَّوجُّهِ الاستِراتيجِي، الذي يَقومُ على بلوَرَةِ رُؤيَّةٍ استراتيجِيَّةٍ وَطنِيَّةٍ شامِلَةٍ نَهضوِيَّة، تُلَبِّي مُقتَضياتِ الأمنِ القَومي بأبعادِهِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ والتَّربويَّةِ والثَّقافِيَّةِ والأمنِيَّة الخ…
إن ما يحتاجهُ لبنان اليوم يتمثَّلُ في افتِقادِهِ لمَسؤولينَ يُغلِّبونَ انتِمائهِم الوَطَني على أَيَّةِ اعتِباراتٍ خارِجِيَّةٍ أو داخِلِيَّةِ، سَواءَ كانت فِئويَّةٍ أم فَردِيَّة، مسؤولون يتَحلَّونَ بالحَدِّ الأَدنى من الوَلاءِ للوَطَن، ويُؤمِنونَ بالطَّاقاتِ البَشريَّةِ الوَطَنِيَّةِ ويُحسِنونَ إستِغلالَ الإمكاناتِ البَشَرِيَّةِ والمادَّيَّة ِويُحافظون على ثرواتِ الوطن.
لبنانُ بحاجَةٍ لقادَةٍ على قياسِ الوَطنِ عابرون للطَّوائفِ والمَذاهِب، يَتَحلُّونَ بروحٍ وَطنيَّةٍ جامِعَة وأخلاقٍ راقيَة.
لم يَعِ المسؤولون اللبنانيون َأهميَّةَ اتِّفاقِ الطَّائفِ الذي وَضَعَ حَدَّا للحَربِ الأهلِيَّةِ، وتَضمَّن إصلاحاتٍ سِياسِيَّةٍ هامَّة، فآثَرَ المُشاركون في السُّلطَةِ على تَطبيقِهِ على نَحوٍ مُشَوَّه، وكادوا أن يُطيحوا بمُرتَكزاتِ السِّلمِ الأَهلي، بتَبَنِّيهِم مَواقِفَ سِياسِيَّةٍ حَادَّة أدَّت إلى انقِساماتٍ سِياسِيَّةٍ عامودِيَّة، دفعَت بِبَعضِهِم لاستِعادَةِ بعضٍ من مُفرداتِ الحَربِ الأَهلِيَّة إلى قائمَةِ المُصطَلَحاتِ السِّياسِيَّة، الأَمرُ الذي أدَّى إلى تَعطيلِ المُؤسَّساتِ الدُّستورِيَّةِ وشَللِ بَعضِها إلى فَتَراتٍ زَمَنِيَّةٍ قياسَيَّة، الأَمرُ الذي فَوَّتَ على لبنانَ الكَثيرَ من الفُرَص.
لم يُحسِن القادةُ اللبنانيون اقتِناصَ الفُرَصَ التي أٌتيحَت أمامَهُم بإقرارِ اتِّفاقِ الطَّائفِ، فلم يُبادروا إلى الانفِتاحِ على العالم الخارجي بموازاة بدء وَرشَةِ إعادةِ الإعمار التي كانَ عرَّابٌها المَغفور له دولة الرَّئيس رَفيقِ الحَريري، ولم يَسعوا إلى بناء دَولةٍ عَصرِيَّة نموذَجِيَّة، بل أمعنوا بمُناكَفاتِهِم السِّياسِيَّةِ ومُماحَكاتِهِم التَّعطيلِيَّةِ وإضاعَةِ الكَثيرِ من الفُرَصِ التي كان يُفترَضُ بِهم استِغلالَها، بَدءاً بالأزمَةِ الماليَّة في دُبَي ومُروراً بثَوراتِ الرَّبيعِ العَرَبي، والتي كان من المُفتَرَضِ أن يكونَ لبنان مُهيَّئا خِلالَها لاستِقطابِ الكَثيرِ من الرَّساميلِ العَرَبِيَّة وغيرِ العَربيَّة، واستِقطابِ المُتموِّلينَ من الدَّولِ العَربِيَّةِ التي شَهِدَت خَضَّاتٍ أمنِيَّةٍ ومالِيَّة.
لم يَستَغِل المسؤولون اللبنانيون فُرصَةَ انسِحابِ القُوَّاتِ العَسكرِيَّةِ وجهازِ الاستِطلاعِ التابعِين للنظامِ السُّورِي عام 2005 لإصلاحِ ذاتِ البين في ما بينهم، وبناء دَولَةِ القانونِ والمُؤسَّسات، وخاصَّةً بعد أن تَحرَّروا من إملاءاتِ رَئيسِ وضبَّاط ذاك الجِهازِ وبخاصَّة غازي كِنعان وخليفَتهُ رُستُم غَزالَة واللذان أساؤوا إلى للبنان ما لسوريا بلعب دورَ الحاكمِ المفوض، بل أضاع اللبنانيون من بعدهم البوصِلَةَ الجِيوسِياسِيَّةِ فتاهوا مُتذبذبين ما بين رِياحِ خمسينيَّةٍ شَرقيَّةٍ حارَّةٍ، وأعاصيرَ غَربِيَّة باردة. فأدخلوا بذلك أنفُسَهم ولبنان في دهاليزِ مَحاورِ الصِّراعاتِ الإقليميَّة، وتردُّداتها على المُستوى الدَّولي.
لم يَعر المَسؤولون اللُّبنانيون أهميَّةَ للموقعِ الجُغرافي للبنان، ولا لمناخَهُالمتوسطي الفُصولي المُعتدِل، ولا لغِناه الدِّيني ولا لتَنوُّعَهُ الثَّقافي، ولم يتبنوا سِياسَةً حِيادِيَّةً مُعتدلَةً مُنفتِحَة على العالَمِ الخارِجي، تَقومُ على سِياسَةِ النَّأي بالنَّفسِ عن الصِّراعاتِ بين الأشِقَّاءِ والأصدِقاء، بل أقحَموا أنفُسَهُم فيها ولو بصورَةٍ غَيرِ مُعلَنَةٍ أو غَيرِ مُباشِرَة، الأمرُ الذي أثارَ حَفيظةَ الكثيرِ من الدُّولِ العربيَّةِ والغربيَّة، كما تَسبَّبَ ذلك باستِياءِ دُوَلِ الخَليجِ العَرَبي الذين لطالَما اشتَكوا من مُمارَساتِ حِزبِ الله العِدائيَّةِ تِجاهَهُم، وخاصَّةً بانخِراطِهِ على نَحوٍ غَيرِ مُعلَنِ في حَربِ اليَمن، فأوقَعوا لُبنانَ بشَيءٍ من العُزلَةِ عن مُحيطِهِ العَرَبي والخَليجِي وبالتَّحديد،ِتلك الدُّولُ الشَّقيقةُ التي لطَالماكانت تُشكِّلُ بالنِّسبةِ للبنانَ سَنداً سِياسِيَّاً قَويَّاً ورافِعَةً اقتِصادِيَّةً ومالِيَّة.
الأداءُ السِّياسيٌ الدَّاخلي لم يكن أسلم، بل كان أشبهُ بتَخبُّطٍ عشوائيّ ٍنَجَمَ عن تَعطيلِ المُؤسَّساتِ الدُّستوريَّة انعكاساتٌ جانبيَّةٌ خَطيرةٌ، بحيث تَسبَّب بانكِماشٍ اقتِصادِي واضطرابٍ في الأَسواقِ المالِيَّةِ في لبنان، ما تَسبَّبَ بانكِشافِ القِطاعِ المَصرِفي وعَجزِ المَصارِفِ عن تَلبِيَةِ زبائنها ومُودِعيها، وإرباكٍ في عَمليَّاتِ الصَّرفِ ساهَمَت في انهِيارِ القِيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعِملَةِ الوَطَنِيَّة. هذه الإنعكاساتُ السَّلبِيَّةُ أدَّت مُجتمِعَةً إلى التَّسبُّبِ بأزمَةِ مَعيشِيَّةِ خانِقَةٍ وبخاصَّةٍ لذَوي الدَّخلِ المَحدودِ، وكُلِّ من يَعتمِدُ في تَدبيرِ حاجاتِهِ اليَومِيَّةِ على راتِبٍ شَهري يتقاضاهُ بالعِملَةِ الوَطَنِيَّة، وفي طَليعَتِهم موظَّفي القِطاعِ العام.
إن احتِمالاتِ الانهيارِ الشَّامِلِ في لبنانَ لم تَعُد مُستبعَدة في ظِلِّ تَصاعُدِ أصواتِ المُكوِّناتِ الشَّعبِيَّةِ الأساسِيَّةِ المُطالِبَةِ بالتَّغييرِ، وخاصَّةً بعدَ التَّحَرُّكاتِ الشَّعبيَّةِ العارِمَةِ التي نَزِلَت إلى الشَّوارِعِ والسَّاحاتِ العامَّةٍ مُعبِّرَةً عن سَخطِها على السِّاسِيين المُتشارِكَينِ أو المُتَعاقبين على إدارَةِ الحُكم، أو أولئك الذين تَوالوا على المَناصِبِ الهامَّة في الدَّولة، مُحَمِّلينَهُم جَميعاً (كُلن يعني كُلن) كامِلَ المَسؤولِيَّةِ عمَّا آلت إليه الأٌمورُ من انهِيارٍ على كافَّةِ الصُّعُد، ومُطالبَينَ بإخضاعِهِم جَميعاً للمُساءلةِ والمُحاسَبَة، سِّياسِيَّاً وقَضائيَّا.
إن لُبنان بحاجَةٍ الى صُنَّاعِ قَرارٍ وقادَةٍ يؤمنونَ بالتَّخطيطِ الاستراتيجي وإدارَةِ الأزَمات، قادةٌ مُبادِرونَ مُبتَكِرون مُبدِعونَ يَتحلُّونَ بروحِ المُبادَرَة، ولا يَكتَفونَ بردَّاتِ الفِعل ِأو بتَسييرِ الأُمورِ تَحت عُنوانٍ”لم يَكُن بالإمكانِ أفضَلِ مِمَّا كان”.
قادةٌ يؤمنون بأن النُّهوضَ يكون بحُسنِ استِغلالِ المُقوِّماتِ والإمكاناتِ الوَطَنِيَّةِ بدلاً من الرِّهانِ على سِياسةٍ تَقومُ على التَّسكُّعِ وطَلَبِ المُساعداتِ الدَّوليَّة.
إن لبنان بحاجة لقادةٍ حقيقيين يؤمنون بأن النُّهوضَ بالبَلدِ مُمكِن، ولكن يلزمُهُ حُسْنَ استِغلالُ المَوارِدِ البَشَرِيَّةِ والإمكاناتِ المادِّيَّةِ المُتاحةِ وترشيدِ استِغلالِ الثَّرواتِ الطَّبيعِيَّة، وفَهمِ عَوامِلِ القُّوَّةِ ومُعالَجَةِ مواضِعَ الضَّعفِ ورَصدِ المَخاطِرِ الخارِجِيَّةِ والتَّحدِّياتِ الدَّاخِلِيَّة.
لبنانُ بحاجَةٍ لمَسؤولين يُؤمنون بحُسنِ العَلاقاتِ الخارجيَّةِ وبمعرفةٍ في إدارَةِ الصِّراعاتِ الخارجيَّةِ، وفنّ ِتَجنُّبِ الأزماتِ الدَّولِيَّةِ، وإعارةِ الاهتمامِ للإستقرارِ الدَّاخلي وإرساءِ السِّلمَ الأهلي والأمنَ الاجتماعي، وبأن هذه المُسلَّماتُ هي سِرُّ نُهوضِ لبنان من كبوته، وحِفاظِهِ على موقِعِهِ العَريقِ بين إخوانِهِ وأصدقائهِ سيَّان كان ذلك في مُحيطِهِ العربي أو الوَسطينِ الإقليمي والدَّولي.
إن لبنان بحاجةٍ لمَسؤولين يُحسنونَ الانتِقالَ من دائرَةِ الأقوال لِمَسارِحِ الأفعالِ،ي ُغلبون الفاعِليَّةَ على المَواقِفِ الشَّعبويَّةِ والتَّعابيرِ الشَّاعِريَّةِ، لمسؤولين يَحترمون القِيَمِ والمبادئ الدِّيمُقراطِيَّةِ، ويُقدِّرون الكَفاءات، ويَتقيدونَ بقواعدِ الاختِصاص، ويبتعدون في أدائهم عن الزَّبائنيَّةِ السِّاسيَّةِ، لمسؤولين جريئين يتصدون للانتِهاكاتِ الدُّستوريَّةِ ولكلِّ أشكالِ الانتهاكاتِ للقوانين المرعيَّةِ الإجراء. لمَسؤولين غيرِ مُتعالين ولا مؤلَّهين بل مُتواضِعين مُتَفهِّمين، يُعيرونَ آذاناً صاغيَةً للتَّنبُّيهاتِ والتَّحذيراتِ التي يُطلقُها الخٌبَراءُ والغيارى على وطَنِهِم.
لبنان ما يَزال سليب الإرادةِ الوطنيَّة، تتحكَّمُ بمَصيرهِ زعاماتٌ تتصرَّفُ وكأنها مَرجعيَّاتٌ دينيَّة، ويا للأسف لا تزالُ تلقى الدَّعمَ والحِمايَةَ من زُمرِ المُنتفعين والفُقراءِ والمَساكين المُضلَّلين، والمنساقينَ عاطِفيَّا أوغرائزِيَّا. وأخطرُ ما في هؤلاءَ تلوُّنُهُم وقدرتٌهم على التَّحوُّلِ وتَستُّرُهم في صفوفِ الانتِفاضةِ الشَّعبيَّةِ وسرقتِهم لشِعاراتها، وحَملهم لراياتِها. وإلى أن يَستفيقَ الشَّعبٌ اللبنانيُّ من غفوته، وانكِشافِ مآلاتِ خَريطَةِ المِنطَقَةِ، يبدو أن لبنان سَيبقى مَسرَحا لانعِكاساتِ نِزاعاتٍ إقليمِيَّة حادَّةٍ نرجو ألاَّ تتحوَّلَ إلى حُروبٍ طَاحِنَة، والتي على ضَوئها قد تُحسَمُ مناطِقَ النُّفوذِ والسَّيطرةِ على رُقعَةِ الشَّرقِ الأوسَط برُمَّتِها.
في ظِلِّ انسِدادِ الأُفُقِ السِّياسي، وتَسارُعِ الأحداثِ واقتِرابِ مواعِيدِ استِحقاقاتٍ هامَّةٍ ومَصيرِيَّةٍ، منها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ مَوعِدُ الانتِخاباتِ التَّشريعِيَّةِ والرِّئاسِيَّةِ والبَلدِيَّة، وحالةِ الانهيارِ الشَّاملِ التي يشهدُها الاقتصاد اللبناني، وغيابِ أيَّةِ فُرصٍ في المَدى المَنظورِ لإنقاذِ القَطاعِ المَصرَفي، والتَّقهقرِ اللامتناهي الذي تُعاني منه العِملَةُ الوَطَنيَّة، وتردِّي الوَضعِ الأمني، وتَفاقُمِ الأَحوالِ المَعيشيَّةِ التي يُعاني منها المُواطِنون، كما تحت وطأةِ ارتجاجاتِ الزَّلازِلِ الإقليميَّةِ التي تُنذِرُ مؤشِّراتها بانفجارِ صِراعاتٍ ورُبَّما حُروبٍ دامِيَةٍ، وتجنُّباً للمَزيدِ من الاضْطِراباتِ الدَّاخِلِيَّةِ،نرى أننا مدعوون لمناجاةِ الضَّمائرِو استِخلاصِ العِبَرِ مما حصَلَ ويَحصَلُ في لبنانَ كما في مُحيطِنا العَربي، وتَدارُكاً لمَخاطِرَ أكبرُ قد تكونُ مُدمِّرةً مُحدِقَةِ بوطننا العزيز.
كما تدعونا التَّحدِّياتُ للتَّصرُّفِ بعَقلانِيَّةٍ، وفقَ منهَجِيَّةٍ عِلمِيَّةٍ مُعاصِرَةٍ تَقومُ على التَّخطيطِ الاستراتيجي والعَملِ على بلورَةِ رؤيةٍ وَطنِيَّةٍ شامِلَةٍ، تبدأ بتَقييمٍ موضوعيٍّ شاملٍ للوَضعِ الرَّاهنِ، من خِلالِ دراسَةِ البيئتين الدَّاخِلِيَّةِ والخارِجِيَّةِ لتَحديدِ عَناصِرِ القوَّةِ ومواضِعِ الضَّعفِ، والمَخاطِرِ الخارِجِيَّةِ والتَّعرُّفِ على الفُرَصِ المُتاحةِ أمامنا للنُّهوضِ بالوطنِ من هذا المُنزلق الخَطير، وَفقَ آلياتٍ تَتوافقُ مع إمكاناتِنا الوَطنِيَّةِ المُتاحَة، على أن تًترجَمَ هذه الخطَّةُ ببرنامَجٍ تنقيذيِ مَراحلي، يتولى توزيعَ المَهماتِ، نوعيَّاً ومَكانياً وزمانيَّا.
التَّغييرُ الذي تَتطلَّبُه عَمليَّةُ النُّهوضِ المَنشودَةِ، لا يُمكِنُ أن ثتحقَّقَ في ظِلِّ الأجواءِ السِّياسيَّةِ المَوتورَة، ولا يَصُحُّ أن توكلَ مَسؤوليَّةَ النُّهوضِ بالوَطنِ أو الإشرافِ عليه أو المُشارَكَةِ في التَّنفيذِ، لأيٍّ من الذين خانوا الوطنَ في عزِّ أزمتِه وضائقتِهِ الماليًّة، أو مِمن شارَكوا أو ساهَموا في إيصالِ البَلَدِ إلى ما وَصلَ إليه عن قًصدٍ أم عن جًهل، أو لأيٍّ ممن شاركوا في تبديدِ ثرواتِ الدَّولةِ أو نًهبِ المالِ العامِّ أو التَّعدي على الأملاكِ العامَّةِ، أو ممن تآمروا على العِملَةِ الوَطنِيَّةِ بتهريبٍ ثَرواتِهم الطائلَةٍ إلى خارِجِ لبنان.
إن الفُرصَةَ لم تَزلْ مُتاحَةٌ أمامنا، وما علينا سِوى التَّواصُلِ والتَّعاونِ والتَّوحُّدِ في هيكَلِيَّةٍ واحِدَةٍ مُتراصَّة، تحتَ رُؤيةٍ وَطَنِيَّةٍ جامِعَةٍ تُتَرجِمُ القواسِمَ المٌشتَرَكَةِ لمُختلِفِ المٌكوِّناتِ السِّياسيَّةِ اللُّبنانيَّة، والتي يُمكِنُ البناء عليها في تحديدِ الأهدافِ الوَطنيَّةِ الاستراتيجيَّة. والتي ينبغي أن يكون في صَدارتِها التَّخلُّصُ من النِّظامِ الطائفي الذي أفسَدَ الحياةَ السِّياسيَّةَ في لبنان، وقوَّضَ مُقوماتِ الدَّولةِ المَدنيَّةِ العادِلَة، وحالَ دون إرساءِ دولةِ الحقِّ وحُكم القانون، والشرعيَّةِ السِّياسِيَّة القائمًةِ على إرضاءِ أفرادِ المُجتمَع، وضَمانِ حُقوقِهِم المُتمثِّلَةِ في مُنجزات تَنمويَّةِ وخَدماتِيَّة، وخاصَّةِ في مَجالاتِ الصِّحَّة والتَّربيةِ والتَّعليم الجامعي، وحِمايَةِ البيئةِ والحِفاظِ على الثَّرواتِ الوَطنِيَّةِ والحدِّ من التَّلوثِ البيئي، وتَحقيقِ البنى التَّحتيَّةِ تَمهيداً لبَرامِجَ تنمويَّة شامِلَة، ورَفاهٍ اجتِماعي.
إن أدبيَّاتِ التَّغييرِ النَّهضوي ورُبَّما الإيديولوجيا الثَّوريَّةِ تُملي علينا التأكيدَ على وجوبِ أن تُولى المَسؤوليَّاتُ الرِّيادِيَّةُ التَّغييريَّةِ إلى رُوَّادِ الحَداثةِ والتَّغييرِ ممن شاركوا في الانتِفاضَةِ الشَّعبِيَّةِ المُبارَكَة، بَعيداً عن التَّوجُّهاتِ الفِدرالِيَّةِ أو التَّأسِيسِيَّة، أو التَّطبيعِيَّةِ والتي يُحاوِلُ البَعضُ إملاءَها عَلَينا وكأنَّها قَدَراً مَحتوما، بل بالاستنادِ إلى المُسلَّماتِ القائلةِ بأن ما ينبغي أن يَحكُمَ مواقِفَنا هو تماسُكُنا وتَعزيزُ وِحدَتَنا الوَطَنِيَّة، والنَّأيُ بلبنان عن تَداعِياتِ الصِّراعاتِ الإقليمِيَّةِ والدَّولِيَّة، باستثناءِ صِراعِنا مع العَدوِّ الاسرائيلي.
وعلينا التَّحضيرُ الجادِ وتوفيرٌ مُستلزماتِ التَّغييرِ والتَّحولِ الدِّيمقراطي من خِلالِ التَّحضيرِ للإنتخاباتِ التشَّريعِيَّة المُزمَعِ إجراؤها في منتَصفِ العام القادِم، وتَشكيلِ وسائلَ ضَغطٍ من أجلِ ضَمانِ إجراءِ الانتِخاباتِ في موعِدِها، ومن ثمَّ العملُ على إجراءِ تَعديلاتٍ دُستوريَّة، وإطلاقُ ورشةِ تًحديثٍ للقوانين النَّافِذة، والحِرصُ على ضَمانِ تطبيقِها على الجميعِ وبقَدرِ من المُساواة.
كما ينبغي العَملُ على إرساءِ ونًشرِ التَّوعِيًةِ الدِّيمقراطِيًّة، لأن الديمقراطيَّةَ ليست مُجرَّدَ انتِخاباتٍ وشَكليات، بل هي منظومَةٌ مُتكامِلةٌ ومُترابِطَةٌ قائمًةٌ على فًصْلِ السُّلطاتِوتَداولِ السُّلطَةِ سِلميَّاً،واستِقلالِ القَضاءِ والإقرارِ بالتَّنوُّعِ والتَّعدّدِيَّةِ واحتِرامِخُصوصِياتِ الأقليَّات، وضَمانِ مبادئ المواطَنَةِ وقيَمِها بما في ذلك تحقيقُ العدالَةِ الجِنائيَّة.
وكذلك لا بدَّ من التأكيدِ على أهمِّيَّةِ إعادَةِ إحياءِ دورِ الأحزاب ساسِيَّا، لأنه لا ديمقراطيَّةَ من دون أحزابٍ تَعملُ على أساسٍ مَدني سِلمي لاعُنفي، ولا تحتكِمُ إلى السِّلاحِ ولا إلى شدِّ الغَرائزِ المَذهبيَّة أو الطائفيَّة، لذا وُجِبَ العَملُ على إعادَةِ النَّظرِ بقانون الجَمعياتِ وإقرارُ قانون أحزابٍ عَصري، يَضمَنُ قِيامَ الأحزابِ على أُسُس وَطنيَّةٍ عِلمانِيَّةٍ لا دينيَّة، بعيداً عن الراديكاليَّةِ والتَّحجُّرِ الإيديولوجي، قانونٌ يٌنتجُ أحزاباً قادِرَةً على التَّكيُّفِ مع عَصرِ العَولَمَةِ والتَّطورِ، ومواكَبَةِ التَّطوراتِ الثَّقافِيَّةِ والثَّورتينِ التِّكنولوجية والصِّناعيَّةِ الرَّقميَّة.
وأخيراً نقولُ بأن الخروجَ من هذا المأزقِ لا تنفَعُ معه الأدوارُ الباهِتَةِ للدَّولَةِ التي يَنبغي علينا العملُ على استِعادتِها لهيبتِها، وليَبقى سُلطانُها وسِيادتُها فَوقَ كُل الاعتِباراتِ والمُكوِّناتِ الدَّاخِليَّة، لأنَّ الدَّولةَ هي مَلجأُ لأبنائها والحُضنُ الدَّافئ الذي يأويهم ويَقيهم من المَخاطرِ بل هي الخَيمةً التي يَستظلونَ بفيئها. من هنا وُجِبَ تَعزيزُ مَكانَتِها كي تَستطيعَ القيامَ بدورِها، وخُصوصاً في مَجالِ توفيرِ الأمن والأمانِ للمُواطنين، كما في تَحقيقِ التَّنميَّةِ المُستدامَةِ والشَّامِلةِ أيضاً، ولاسِيّما في مَجالاتِ الصِّحَّةِ والتَّعليم ومُختلِفِ الجَوانبِ الاقتِصادِيَّةِ والبيئيَّةِ والمَعيشيَّةِ وتأمين كافَّةِ مُستلزًماتِ الرِّعايَّةِ وتوفيرِ فُرَصِ العَمَلِ لمواطنيها والحدِّ من مُستوى البَطالَةِ ومَحوِ الأميَّةِ وقَطعِ دابِرِ مَظاهِرِ التَّخلّف. كما عليها أن تبقى على جُهوزِيَّةٍ للقِيامِ بتَدخُّلاتٍ اقتِصادِيَّةٍ مالِيَّةٍ حِمائيَّة، ذلك أنه لا يُمكنها إنجازُتلك المُهماتِمن دون دورٍ أساسيٍّ فاعِلٍ ومؤثّرٍ للدَّولَة، كما لأن تركَ الأمورَ على غارِبِهِ للمُضارِيين تَحت شِعارِ حُريَّةِ السُّوقِ الاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ من دونِ أيَّةِ ضَوابِطَ تَحمي المُواطِنينَ والإنتاجَ المَحلِّي يُؤدّي حُكماً إلى القَضاءِ على المُقوِّماتِ الاقتِصادِيَّةِ المُنتِجَة، ويُحوَّلُ الاقتِصادِ الوطني إلى اقتِصادٍ ريعي قاتلٍ،وها نحن ندفع ثمنه اليوم.
ونختمُ بالقونِ بأنه عندما يفتقدُ السياسيُّون لحسِ ألف باء الأدبيَّاتِ الوَطنِيَّة، تًصبِحُ الثَّورةُ لِزاما لا قَدَرا.