ازمة لبنانالاحدث

لبنان وعربة الفول | بقلم المحامي زياد فرام

من منّا لم يتأمّل يوماً في مشهدٍ ظلّ يتكرّر بتواترٍ في مسلسل “باب الحارة” الشامي..!! ذاك المشهد الذي تنقلب فيه “عرباية الفول” وسط ساحة “حارة باب الضَّبع” مع كلّ صدام أو معركة، كأنَّها إحدى شخصيات الحكاية لا مجرد مؤثر خاصّ.. عرباية مهترئة، عجلاتها الخشبية معوّجة، وهيكلها كأنّه يرزح تحت عبء أجيالٍ ورثَت المصير قبل أن تَرِث الشكل، أمَّا صاحبها، فكعادته لا يلوذ بالفرار، بل يندفع دوماً بكل حماسةٍ إلى قلب المعركة، ليكون أول ضحاياها.

هي عَربة، لكنها تُشبه لبنان.

منذ ولادته الحديثة، ولبنان أشبه بساحة شجار مفتوحة لتصفية حسابات الآخرين، صراعاتٌ تُحاك في الخارج وتُحسم على أرضه، من دون أن يُستشار أو يُحترم كطرف. لم يكن اللاعب، بل رقعة الشطرنج، وكانت النكبات تأتيه من كل صوب: من نكبة فلسطين عام 1948 وما تبعها من خلل ديموغرافي، إلى أزمة 1958 وثورتها الداخلية، فنكسة 1967 وارتداداتها، مروراً بانتقال السلاح الفلسطيني إلى بيروت عام 1969، و”اتفاق القاهرة” الذي قَوَّضَ سيادة الدولة في مخيماتها وحدودها الجنوبية.

توالت الصفعات: حرب 1973، فحرب السنتين 1975 – 1976، ثم الدخول السوري فكامب ديفيد، فاجتياح 1982 واحتلال بيروت، فـ”طائفٌ” أعاد ترسيم اللعبة السياسية، دون أن يُحصّن الوطن من الوهن. ثم عناقيد الغضب 1996، فالانسحاب الإسرائيلي عام 2000 وصعود المقاومة، فحرب 2006، فمعارك نهر البارد، ثم أحداث السابع من أيار 2008، حيث سُحقت بيروت بالحديد والنار، ليُنتج الدم “اتفاق الدوحة”.

لم يكد لبنان يلتقط أنفاسه، حتى اجتاحته تداعيات الحرب السورية ابتداءً من 2011، مُضافاً إليها صمت دولي قاتل، وعبثٌ سياسي داخلي شلّ المؤسسات وفتح الباب أمام انهيار ممنهج. جاء الإرهاب بأنيابه إلى الجرود، فكان الرد في فجرها عام 2017، تلاه صراع داخلي أعاد خنق الحياة السياسية، حتى انفجرت شوارع البلاد بثورة 17 تشرين 2019، وبان كل شيء عارياً: الليرة تسقط، المصارف تنهب، الأموال تُهرَّب، والفقر يبتلع الطبقة الوسطى.

ثم أتت الجائحة، وكأنّ القدر لا يشبع من الأوجاع. وبينما كان الجسد الوطني يتهاوى، جاءت ضربة بيروت الكبرى، 4 آب 2020، لتكشف أن لا مناعة بقيت، لا في البنى، ولا في الأخلاق العامة، ولا في معنى السيادة.

واليوم، لبنان من جديد في قلب العاصفة: ملتحق بجبهة من نار، يشتعل طرفها في غزة، ويتمدّد لهيبها نحو الجنوب، وجمرة الحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية تختمر، تهدد بأن تأكل ما تبقى من أطراف هذا الكيان الواهن.

ثمانٍ وسبعون حكومة منذ الاستقلال، عشرون منها بعد الطائف وحده، وكلها لم تتمكن من تحصين الساحة أو ردّ السيل الآتي من الخارج. وطنٌ تركه العالم ليتخبّط، يتآكله الداخل بفساده، ويستثمره الخارج في تسويات لا يكون فيها إلّا الضحية.

لبنان، كعربة الفول تلك، يقف في وسط ساحة العراك. لا يحتمي. لا يُنقَل. لا يُنقذ. كلّما اقترب الخطر، رُكلَت عجلاته، وانقلب على جنبه، وسط فراغ السلطة وفساد السياسة، وتوحّش الطوائف، وانفلات الرأسمال.

لكن لبنان ليس خشباً يابساً، ولا معدناً صدئاً. فيه شعبٌ، وإن جُرِّد من ماله وصوته وأحلامه، لم يُجرّد بعد من الحياة. وهذه الحياة وحدها، ولو بقبسٍ ضئيل، قد تُبقي لعربة الفول ـ وللبنان ـ حق النهوض، لا ليعود إلى الساحة كما كان، بل ليخرج منها كلّياً، إلى ساحات يصنعها بنفسه، بعيداً عن تناقضات الآخرين.

المحامي زياد فرام، كاتب وباحث

المحامي زياد قزحيّا فرام ـ محامٍ بالإستئناف لدى نقابة المحامين في بيروت ولدى المحاكم الروحيّة والكنسيّة، حائز دبلوم في القانون الخاصّ، باحث في المجال الحقوقي والإقتصاد السّياسي. كاتب في مواقع قانونيّة واقتصاديّة متخصّصة. حازت مقالاته على اختيارات غوغل للأكثر قراءة مرّات عدّة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى