لبنان: 77 عامًا من البحثِ عن الإستقلال بقلم البروفسور بيار الخوري
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
كلّما عادت ذكرى استقلال لبنان، عاد السؤال حول حقيقة تحقيق ذلك الإستقلال الذي قرّره الأجنبي من دون مشقّة كبرى أو نضال حقيقي للحصول عليه. لقد أخذ اللبنانيون وقتًا، ربما لم ينتهِ بعد، لفهم استقلالهم، ناهيك عن اقتناعهم به.
قام الإستقلالُ اللبناني على تسويةٍ بين نُخَبٍ طائفية مُسَيطِرة في الإقتصاد والسياسة، لكنه تعرّض لتحدّي المُساءلة طوال عمر الجمهورية. وهنا تبرز النزعة للسؤال عن معنى الإستقلال التي تعاظمت خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، ولم تنتهِ مع نهايتها؛ لا بل زاد سنة بعد سنة استخدام مطلع قصيدة المتنبي “عيدٌ بأيّةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ؟”.
بعد الحرب أيضًا، تحوّل الإستقلال إلى مُناسبة تهكّم، لا بل صار لدى بعض اللبنانيين مناسبة للترحّم على الإنتداب، والترحّم على أيام السلطنة العثمانية لدى البعض الآخر، ومطالبة بتذويب الكيان في كيان أوسع، أو على العكس إعادة رسم دستوري للعلاقات بين الطوائف وصولًا الى الفيدرالية أو التقسيم الناجز.
أنا من المُقتنِعين أن اتفاق الطائف لم يُطبَّق، وأنه تهشّم أو هُشِّمَ مرّاتٍ بفعل التغيّر السريع في ميزان القوى بين الطوائف، ودرجة واتجاه تأثير الخارج في هذا الميزان. لكن هذا الأمر بذاته يُعيدُنا الى السؤال الرئيس: هل تُبنى الاوطان على موازين قوى مُتغَيِّرة؟ هل يقومُ وطنٌ على التفاوض الدائم تبعًا لتغيّر موازين تلك القوى؟ لا يقوم وطنٌ إلّا على الثقة بين المواطنين، من مؤسساتٍ ووحداتٍ إقتصادية وقوى اجتماعية وسياسية.
لا تُبنى الأوطان إلّا على بناء الثقة. دعونا نتّفق أوّلًا على ماذا تعني الثقة؟ الثقة تعني أن نتوقّع قيام مَن يتشاركون المواطنية أو المُواطَنة بالسلوكيات التي تُعبّر عن الأخلاق الوطنية المُشتركة. هذه الأخلاق الوطنية يُمكن التعبير عنها بطُرُقٍ واضحة أوّلها الصدق. والصدق ليس فقط مسألة أخلاقيه شخصية؛ بل هو مسألة تَدخل في قياس كل ما له علاقة بالمصالح المشتركة. فالصدق هو عكس التكاذُب الذي يقوم على مبدأ “أعرف بموجبه أنك لا تُصدّقني، وأنتَ تعرف أنني لا أُصدّقك، وتعرف أن جوابي لك هو جوابٌ بدوره غير صادق، ورُغم ذلك نستمر بالتكاذب”. عندما يقوم السياسيون بالتعبير عن مواقفهم، فهذا يجب أن يكون موثوقًا ومُوَثّقًا، مُنحازًا للحقيقة العلمية وكاملًا أيضًا. لبنان يقوم على أنصاف الحقائق، وهذه الأصناف هي تكاذُبٌ كامل.
أما الإشكالية الثانية، فتكمن بشكلٍ رئيس في أننا لا نعي بأننا لا نلعب وحدنا. وهذا يترتّب عليه مُعادلة تقوم على الآتي: “أي سلوك نقوم به يجب أن يستند إلى النية الحسنة”، حيث يهتم الأفرقاء كافة بمعرفة كيف يؤثر ذلك في مصالح الآخرين. لماذا؟ لأن الثقة تتطلب إحترامًا حقيقيًا لمصالح الفريق الآخر، حتى يتمكّن الجميع من العمل بنيةٍ حسنة. لا يمكن للشركاء في المواطنية أو المُواطَنة أن يعملوا بمنطق إما كل شيء أو لا شيء… ثم نرى.
نحنُ لا نعترف بثقافةِ المُساءلة التي تقوم على تقديمِ التزاماتٍ واضحة والإلتزام بها. وانطلاقًا من هذا النقص في ترجمة هذه الإلتزامات، يتوجّب على الطوائف والأحزاب والمؤسسات السياسية والإجتماعية أن تُبرهن وتُظهر أنها تعمل بلا إبطاء للوفاء بوعودها التي لا تنتهي عبر تعزيز فتح أبواب كشف المعلومات، وإمكانية التحقّق من كل شيء. لكن، وللأسف، أثبتت التجارب أن الزعماء السياسيين هم “ملوك” لعبة إلقاء اللوم على الآخرين كي لا يخضعوا للمُساءلة.
وأخيرًا، هناك أشياءٌ يحتاج اللبنانيون إلى معرفتها بوضوح وبلا لبس كمواطنين، حتى يتمكّنوا من اتخاذِ قراراتٍ ذكية. ويجب ألّا يضطروا إلى ترك خيالهم التحليلي يسرح إلى الإحتمالات الأكثر قذارة عمّا يُمارسه السياسيون. الإنفتاحُ مهمٌ جدًا هنا. لذلك يجب “التعرّي” في كل ما له علاقة بالعمل العام، من مُمارسة العمل السياسي، إلى الوظيفة العامة، إلى دفع الضرائب. العمل في العراء وب”عري” كامل أمام المُجتمع. إذا كثرت التساؤلات عمّا يخفيه الأطراف المختلفون، فهذه علامة على ضعف الشفافية، والشفافية الضعيفة تؤدي إلى عدم الثقة، وعدم الثقة، ببساطة، تهدّ الأوطان.
وبناءً عليه، يُمكن للأساس المتين للثقة أن يخلق ويولّد وطنًا أكثر أمانًا وجدارة بالثقة، وهذا هو أساسٌ لجعل اللبنانيين مسؤولين عن مستقبلهم ومستقبل بلدهم.
في الذكرى السابعة والسبعين للإستقلال يواجه لبنان أخطارًا تفتيتية بتنا نعرفها جميعًا. ولكن هل يُحدّد شكل الكيان نجاح الدولة أم يُحدّده التفاهم والثقة؟ هذا السؤال يبقى مشروعًا في حال بقينا في دولة الطائف أو ذهبنا الى الدولة المدنية أو الى اللامركزية المُوسّعة أو الفيدرالية أو التقسيم الناجز.
وطالما العقلية السياسية لا تؤمن ببناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات والأشخاص العاملين في الحقل العام، لن يكون هناك استقلالٌ يفتخر به اللبنانيون ويرفعون رؤوسهم به، مهما كان شكل الدولة، وسنبقى مُتدرّجين في تفتيت المُفتّت إلى أن ينتهي لبنان.
رابط المقال: اضغط هنا