ازمة لبنانالاحدث

ما بَعدَ الجماعة في لبنان: الدَولَةُ بوَصفِها آخر خياراتِ النجاة | بقلم د. بيار الخوري

في لحظةٍ فارِقةٍ تاريخية في لبنان، تبدو الدولةُ كيانًا مُستَهدَفًا في المُعادلة الداخلية، لكنها في الوقت نفسه لا تزالُ تَحتِكِرُ شرعيةَ التمثيلِ الدولي، وإطارَ الاعترافِ الدولي، وحَيَوِيَّةَ الكيانِ اللبناني كما هو مفهومٌ في النظامِ الدولي.

يَكشُفُ هذا التناقُضُ عن أزمةٍ هيكلية لا تُؤثّرُ فقط في مؤسّسات الدولة، ولكن أيضًا في الهيكل الطائفي نفسه، وفي العقلِ الجمعي للجماعات اللبنانية التي تعاملت منذ فترةٍ طويلة مع الدولة ليسَ ككيانٍ سيادي فوق الانتماءات، ولكن كأداةِ توازُنٍ داخل لعبة المجموعات ذاتها.

تاريخيًا، لم تَكُن الدولةُ اللبنانية مَبنيَّةً على أُسُسِ الدولةِ الحديثة التي تحدّثَ عنها فلاسفة العقود الاجتماعية مثل الإنكليزي توماس هوبز أو الفرنسي جان جاك روسو، بل كانت نتاجَ توازُن المصالح بين الطوائف، بدلًا من الإرادة الشعبية المُوحّدة. كانت الدولةُ مُجرّدَ مظروفٍ هَشّ، تناوبت الطوائف على السيطرة على الحصص والتفاوُض عليها، بدون أن تؤمِنَ فعليًا بمبدَإِ احتكارِ القرار الوطني أو السيادة القانونية. في مرحلةٍ ما من تاريخها، رفضت كلُّ جماعةٍ لبنانية أن تكون الدولة سلطة أعلى إذا شعرت أنها لا تُجَسّدُ مصالحها أو تحميها.

فعندما رَؤوا الكيانَ مُهَدَّدًا، دعم الموارنة فكرة وجود ميليشيا خاصة وراهنوا على الغرب؛ عندما شعرَ السُنَّة بالتهميش، استبدلوا الدولة بالهوية العروبية؛ وكان الدروز يعاملون الدولة دائمًا على أنها حليفٌ غير موثوقٍ به في ظلِّ موازين قوى مُتغيِّرة. وبعد استتباعٍ طويل لهوياتٍ سياسيةٍ إقليميةٍ واُمَميّة، ثبّت الشيعة سلاحهم المدعوم من الثورة الإيرانية كمصدرٍ للسلطة والمكانة.

لكن ما يَتَغَيّرُ اليوم ليس فقط موقع المجموعات داخل المُعادلة، ولكن طبيعة هذه المجموعات نفسها. إنَّ الهياكلَ الطائفية التقليدية تتآكلُ من الداخل: فَقَدَ الخطابُ النمطي جاذبيته، ولم تَعُد السلطاتُ الدينية قادرةً على السيطرة على الخطاب العام، وانهارَ الاقتصادُ الرَيعي الطائفي، ولم تَعُد الخدمات التي كانت تُقَدَّمُ نيابةً عن المجموعة مُتاحة. وباعتباره ملاذًا ومجتمعًا صغيرًا، يفقدُ الإطارُ الطائفي وظيفته الأساسية، حيث يتراجع من كونه هويَّةً حيّة إلى إطارٍ رسمي يُستَخدَمُ عندما ينمو الخوف ويتلاشى مع كلِّ أملٍ مُتَجَدِّد. مع هذا التغيّر، تُواجه الجماعات في لبنان أزمةً مزدوجة: فهي لا تَثِقُ بالدولة ولا ترى فيها خلاصها، لكنها لم تَعُد تمتلك نفسها كمجموعة مستقلة يُمكنها إدارةَ حياتها أو الدفاع عن نفسها.

وفي هذا السياق، تظهرُ الدولةُ الضعيفة كمُفارقة مركزيّة. هي غيرُ قادرةٍ على فَرضِ سيادتها ومشروعها بقوّة القانون، ولكنها تظلُّ الكيانَ الوحيد الذي يمنح الطوائف وجودًا في النظام الدولي. هي شرطُ المساعدات، والاعتراف بالحدود، والتعامل مع صندوق النقد الدولي، والاتفاقات المُوَقَّعة. الدولةُ هنا لا تُحتَرَمُ كقوّة، ولكنها لا تزالُ ضرورة. إنه رمزٌ يكتنفه الكثير من عدم المعنى، لكنه أمرٌ لا غنى عنه.

يعكسُ هذا الوضع ما وصفه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي بأنه أزمةُ هَيمَنة: فَقَدَت النُخَبُ قيادتَها الأخلاقية والفكرية، وفَقَدَت الطوائف قُدرتَها على إنتاجِ المعنى، وفَقَدَت الدولة قُدرتَها على احتكارِ السلطة. نحنُ في لحظةٍ قبل التغيير أو الانهيار، حيثُ لا تزالُ الكيانات القديمة موجودة، لكن روحها قد ذبلت. لا تزال الدولة موجودة، لكن وظيفتها قد انحصرت بكونها ضرورة للاستمرارية، ممنوعة من التقدُّم كمشروعٍ جماعي للبناء أو الخلاص.

وهكذا، تصبح الدولة، في أكثر لحظاتها ضعفًا، أقوى العناصر المُتَبَقّية من التماسُك، ليس لأنها تُمثّلُ شخصًا حقيقيًا، ولكن لأنها لا تزال تُمثّلُ الكُلّ. في لحظةِ انهيارِ القوة الذاتية للجماعات، لا تُصبِحُ الدولة فوقها، ولكنها تُصبحُ الاكثر شأنًا، لانها تظلُّ الوحيدة التي يمكن للمجموعات التمسُّك بها عندما يَسقُطُ وينهارُ كلُّ شيء.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى