متى يُمكن القول للعامل اللبنانيّ كل عيد وأنت بخير؟ | بقلم د. رنا منصور
لقد تأثّر وضع العامل اللبنانيّ على امتداد الأزمة الماليّة والإعتداءات الإسرائيليّة المتكررة بالواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والمعيشيّ للبلاد. فقد شهدت السنوات الأخيرة معدّلات صرف كبيرة للعمال نتيجة التضخم والتباطؤ في النمو، انهيار سعر صرف الليرة، تحويل أصحاب رؤوس الأموال الضخمة أموالهم إلى الخارج، وسلب المودعين المتبقيّين جنى عمرهم في المصارف اللبنانيّة.
في المقابل، برزت أزمة ازدياد البطالة مع ارتفاع نسبة نزوح السوريّين والتقديمات التي يتلقاها هؤلاء من الأمم المتّحدة، سواء أكانت ماديّة أم صحيّة، في ظل الغياب التام لدور الضمان الاجتماعيّ للبنانيّين وارتفاع أقساط التأمين بشكل جنونيّ وانهيار قطاع الطاقة والشح بموارد المياه المقدّمة من مؤسّسات المياه الرسميّة لا سيّما مياه الخدمة. ناهيك عن تضاؤل وتآكل قيمة الأجور بنسب خياليّة، خصوصاً بالنسبة للمتقاعدين الذين باتوا غير قادرين على شراء المواد الغذائيّة الأساسيّة كاللحوم والحلويات.
تراجعت في السنوات الأخيرة دائرة الاقتصاد الحقيقيّ، وسط بروز أشكال من التورّم الماليّ الناجم عن الهدر بالإنفاق العام، ترافقت مع ضرائب باهظة أُلقيت على كاهل المواطن الفقير في موازنة العام 2024، وفي الدولار الجمركيّ. لا بل الأنكى من ذلك، هو أنّ نسبة الفقر الرسميّة وصلت إلى 83% من الشعب اللبنانيّ بحسب تقديرات وزارة الشؤون الاجتماعيّة اللبنانيّة، والقادم أعظم.
كما ارتفعت بنية الأسعار الداخليّة وأسعار صرف الدولار وضعفت القدرة التنافسيّة للإنتاج المحليّ وتقلّصت حركة التصدير نتيجة إقفال العديد من المصانع، واعتماد لبنان على قطاع الخدمات عوضاً عن الإنتاج.
كذلك، فإنّ الإستهلاك المحليّ مرتكز في لبنان على الإستيراد، ممّا فاقم العجز في ميزان المدفوعات في ظل انخفاض التغطية للصناعات والمنتجات الأساسيّة من قِبل مصرف لبنان، وإلحاق الضرر بالعديد من التجار لإقفال مؤسساتهم والإنتقال إلى العمل في الخارج.
كما انعكس بروز العجز الماليّ مع العجز على تسديد قيمة المحروقات المستوردة وتأمين المياه والقيام بمشاريع إنتاجيّة، لا بل انتشرت النفايات في العديد من المناطق نتيجة العجز عن تسديد أتعاب الشركات المتعاقدة مع الدولة، والإنفاق العام المشبع بالهدر والغياب الفعليّ للرقابة وتطوّر الإنفاق غير المسؤول.
كل هذا أفضى إلى شبه إفلاس للدولة اللبنانيّة في ظل عجزها عن استخراج النفط والغاز من بلوكاتها البحريّة، تنامي الدين العام، غياب القدرة على استجلاب رؤوس الأموال الأجنبية والاستثمار، وتضعضع العلاقات مع الدول العربيّة النفطيّة، ممّا أضرّ بالقطاع المصرفيّ وجعل العديد من المصارف البارزة مهدّدة بالإقفال وبطرد عدد كبير من العمال.
وهكذا يُردّد العامل اللبنانيّ: “بأي حال عُدت يا عيد؟” إنّ غياب الخطط والبرامج الاقتصاديّة من موازنة العام 2024 وغياب الإلتزام بالمباشرة بالإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدوليّ والتي أوّلها خطة التعافيّ الماليّ وحل أزمة المودعين، سوف يُعيقان الحصول على التمويل اللازم للقطاع العام من الأسواق الخارجيّة ويُخسّر الاقتصاد اللبنانيّ ثلاثة مليارات دولار أميركيّ هو بأمس الحاجة إليها,. والويل الويل إذا ما صُرف الإحتياطيّ بالدولار الموجود في مصرف لبنان، وأصبحت الليرة اللبنانيّة بدون تغطية، وبالتالي بلا قيمة فعليّة في السوق.
أمّا على المستوى المعيشيّ، فحدّث ولا حرج، إذ لم ينجح النمو الاقتصاديّ ولم تتحسّن الأوضاع المعيشيّة للعمال الذين تتمّ معايدتهم اليوم، ولم تتمكّن الدولة من رفع الحد الأدنى للأجور بالشكل الذي يُمكّن العامل من تأمين قوت يومه حتى الخامس من كل شهر. فلا القاضي ولا الأستاذ الجامعيّ ولا المدير العام تمكّن من الحصول على الإكتفاء الذاتيّ، والطبابة والإستشفاء الضروريَّيْن له ولعائلته. فكيف هو الحال بالموظف العاديّ المحروم حتى من تسديد قسط ولده المدرسيّ.
إنّ الإختلالات التي تُعاني منها سوق العمل المحليّة عموماً تنعكس آثارها على الفقراء وأحزمة البؤس الاجتماعيّ، وتتركّز في صفوف العمال المياومين والموسميّين والمؤقّتين والذين يعملون بالقطعة ويمثّلون ثلث إجماليّ العاملين اللبنانيّين.
أمّا الحق في ضمان الشيخوخة فلم يُترجم على أرض الواقع، وأنظمة التقاعد تتهالك هي والأنظمة الصحيّة للمتقاعدين، والخوف من المستقبل يتفاقم خصوصاً في ظل إحلال العمالة الأجنبيّة باللبنانيّة، واتّجاه اللبنانيّين نحو الهجرة، كلّما أمكن ذلك.
إنّ التوجّه للإصلاح قبل فوات الأوان أمر ضروريّ، وتحفيز مقوّمات الاقتصاد الإنتاجيّ يجب أن يترافق مع برامج تحفيزيّة من السلطة مع تطوير خطط الاستثمار وتعزيز شبكات التمويل وإعادة بناء الطبقة الوسطى. كما يجب وقف المراهنة على اليد الأجنبيّة الرخيصة، وإعادة تطوير نظام التأمينات الاجتماعيّة، والتوجه لإقرار نظام صحيّ شامل لكل اللبنانيّين، وحل مسألة البطالة المستفحلة وفقاً لصِيغ التعاقد الاجتماعيّ التي أقرّتها البلدان المتقدّمة، وتوجيه الطلاب لكيفيّة اختيار المهن التي تكون سوق العمل بأمس الحاجة إليها لتسهيل عملية انتقال الشباب لهذه السوق بالتعاون ما بين وزارة العمل وجمعيّات أصحاب العمل، وعندها فقط يُمكن القول للعامل اللبنانيّ كل عيد عمّال وأنت بخير، وبألف خير إن شاء الله.