ازمة لبنانالاحدث
مصير لبنان رهنُ إرادةِ التَّغيير الوطنية | بقلم العميد د. عادل مشموشي
أضحى معلوماً لدى اللبنانيين أنه لا يمكن إنقاذ لبنان من كبوته وإخراجه من المأزق الذي يتخبَّط فيه منذ عقدين من الزَّمن، في ظِلِّ تحكُّمِ طبقةٍ سياسيّةٍ راديكاليَّةٍ تديرُ شؤون الدَّولةِ بمُقارباتٍ مُتخلِّفةٍ أوصلتنا إلى ما نحن عليه من تفسُّخٍ وانهيار، وأن الخلاصَ باعتمادِ توجُّهاتٍ تغييريَّةٍ جوهريَّة، تتبنّى مُقارباتٍ سياسيَّةٍ حديثةٍ خارج إطارِ الأنماطِ التي اعتدنا عليها، ذلك أن النُّهوضَ بالوطن يستوجبُ مقاربةَ التَّغييرِ المنشودِ وفقَ مرتكزاتٍ سياسيَّةٍ إصلاحيَّةٍ تُعالجُ الأزماتِ الراهنةِ من جذورها، وتؤسِّسُ لدولةٍ عصريَّةٍ قادرةٍ عى مواجهةِ التَّحديات التي تحمِلُها التَّحوّلاتُ المُتسارعةُ التي يشهدُها العالم ومنطقةُ الشَّرق الأوسطِ على وجه الخُصوص.
لقد فعلت القوى السِّياسيَّةُ الراديكاليَّةُ فِعلها في لبنان، بحيث عملت على إضعاف روحيَّةِ الانتماء الوطني وتكريسِ الانقساماتِ الطَّائفيَّةِ والمَذهبيَّةِ بين مُختلفِ المُكوِّناتِ الوطنيَّة، وابتدعت مفاهيم وأعرافَ ملتويَةً لتغليب منفعتها الشَّخصيَّةِ ومصالِحها الفئويَّةِ على الاعتِباراتِ الوطنيَّة، الأمرُ الذي ولَّد لدى النَّافذين منهم رغبةً جامِحَةً في التَّمسُّكِ بالسُّلطَةِ وحرصاً على الحِفاظِ على الوضع القائمِ ودأبت على مُقاومةِ التَّغيير بكلِّ ما لديها من وسائل، فدأبت على تضييق الخناق على
الحريَّاتِ وتَهميشِ دور المُثقفين وإقصاءِ ذوي الكفاءَة.
كما أدَّى تعارضُ مصالحِ تلك القِوى إلى انقساماتٍ سياسيَّةٍ حادَّةٍ في ما بينها، ما قوَّض مُرتكزاتِ الإستقرارِ السِّياسي، وفوَّت فُرَصِ تبني حُلولٍ ناجعةٍ للأزماتِ القائمَة، الأمرُ الذي انعكسَ سلباً على الأوضاعِ الاقتصاديَّةِ والماليَّةِ والاجتماعيَّةِ والمعيشيَّة الخ…
لقد أوصلت المقارباتُ الراديكاليَّةُ لبنان إلى حالةِ من الاختناق السِّياسي والاقتصادي والمالي… الخ، الأمرُ الذي أدّى إلى تفجُّرِ العديد من الأزماتِ المصرفيَّةِ والنَّقديَّةِ والمَعيشيَّة، تسبَّبت في تعطيلِ مؤسَّساتِ الدَّولةِ والتَّخلُّفِ عن إنجاز الاستحقاقاتِ الدستوريَّةِ في مواعيدها، وشلِّ القِطاع العام الذي انعكسَ سلباً على إنتاجيَّةِ القِطاعِ الخاص الأمر الذي أدَّى إلى تراجعٍ حادٍّ في الإنتاج القَومي وقصورِ الدَّولةِ عن القِيامِ بأدنى واجباتها. كل ذلك يملي علينا المُناداةَ بتبنّي منهجيَّةٍ تغييريَّةٍ مُستدامةٍ للخُروجِ من المأزق الحالي، تستوجبُ استبدالَ القياداتِ السِّياسيَّةٍ الحاليَّةِ بقياداتٍ رياديَّةٍ، قادرةٍ على إدارَةِ التَّغيير بسلاسَةٍ وخُطًى ثابتة.
إن التَّغييرَ الذي ننشُدُه يتطلَّبُ توفُّرَ قناعةٍ راسخةٍ بأهميَّتِه لدى مُختلفِ المُكوناتِ اللبنانيَّةِ، باعتباره المسارَ الأمثل للنُّهوضِ بالوطن، ووضعِهِ على سكَّةِ الازدهارِ المُستدام؛ ولكنه مَحفوفٌ بالمَخاطرِ إن لم يُصَر إلى التَّنبُّه لما قد يلقاه من مُعارضةٍ شرسةٍ من قبلِ القِوى الراديكاليَّةِ والمُنتفعين منها، حرصاً على مُكتسباتِهم السَّابقةِ ومَصالِحِهم المُستقبليَّة. ويتوقَّفُ نجاحُهُ على مدى تبنّي خياراتٍ صائبَة، تُترجَمُ باستراتيجيَّاتِ متوسِّطةٍ وطويلةِ الأمدِ، تُنفَّذُ وفقَ مُخطَّطاتٍ تنفيذيَّةٍ على مراحلَ زمنيَّةٍ تأخذُ بعين الاعتبارِ الإمكاناتِ المُتوفرة. كما أن تحقيق النَّتائجِ المرجوَّةِ منه يَتوقَّفُ على مدى توفُّرِ إرادَةٍ شعبيَّةٍ تنشُدُ التَّطورَ ومُشاركةٍ وتُسهِمُ في تَطويرِ الحياةِ السِّياسِيَّة وتكريسِ نِظامَ العدالةِ الاجتماعيَّة وتَحقيقِ المُساواةِ في الحُقوقِ والواجباتِ وفق مفهومِ المُواطنةِ الحقيقيَّةِ التي تضمنُ الحُقوقَ بعيداً عن أيَّةِ اعتِباراتٍ فئويَّةٍ أو شَخصِيَّة.
والتَّغييرُ المَنشود بحاجةٍ إلى قيادةٍ سياسيَّةٍ رَشيدَةٍ تتحلّى بمزايا رياديَّةٍ ابتكاريَّة رؤيويَّةٍ إصلاحيَّةٍ، تقومُ على روحِ المُبادرة، والقُدرة على بلورةِ رؤيةٍ استراتيجيَّةٍ مُتكاملة، وتَبنّي خياراتٍ جريئة، واتِّخاذِ قراراتٍ استثنائيَّةِ في ظِلِّ ظُروفٍ قاهِرَة، والتَّصدّي للتَّحدياتِ المُستقبليَّةِ وفق منهجيَّتي التَّخطيطِ المُسبق وإدارةِ الأزمات، والتَّشارُكيَّةٍ في صِناعةِ القرارِ والمَأسَسةِ في إدارة شؤون الدَّولة، وصولاً إلى تحقيقِ التَّنميَةِ المُستدامَة.
والتَّغييرُ ينبغي أن يكون شاملاً ومبنيًّا على توجُّهاتٍ إصلاحيَّةٍ جذريَّةٍ متعدِّدةُ المحاور، أهمُّها:
أ- إصلاح سياسي: باعتبارهِ العامود الفقري للتَّغيير في لبنان، وهو ضرورةً ملحَّةً للحِفاظِ على الاستقرار، لضمانِ حسن سيرِ العملِ في المؤسَّسات الدستوريَّة وتكريس استقلاليَّتِها وتعاونِها مع بعضِها البعض وتوازُنها في ما بينها، وهذا يستوجبُ جملةً من الإصلاحاتِ أهمها:
1- إعادة صياغةِ الدُّستور وفقَ روحية اتِّفاقِ الطائف، على نحو يراعي المعايير الدَّوليَّةِ ويستجيب للقيم الإنسانيَّة، ويُعالجُ جميعَ الثَّغرات التي انكشَفت بمعرضِ تطبيقه، بما في ذلك تحديدُ تواريخ وآليات إنجاز الاستحقاقات الدُّستوريَّة، وإعادة صياغة بعض المواد على نحوٍ لا يقبلُ التأويلَ أو التَّفسير على خلافِ نيَّةِ المُشرِّع.
2- التَّحرُّرُ من الطائفيَّةِ السِّياسيَّةِ، والتَّخلُّصِ من المُحاصَصاتِ الفئويَّة، بتشكيل الهيئة الوطنيَّةِ لإلغاء الطائفيَّة السياسيَّة، وتحديدِ مهامها على نحو يكفل اعتمادَ مَعاييرِ الكفاءة والتَّمثيلِ الديمقراطي لمختلف المكونات، خلال فترةِ لا تتجاوز ست سنوات.
3- تحديثُ النِّظامُ الانتخالي، باعتمادِ قانون انتخابي حديث يكفلُ صحَّةَ التَّمثيل، وتوزيع المقاعد النيابيَّة وفقَ توزُّع الناخبين جُغرافيًّا، واعتمادِ مبدأ النِّسبيَّةِ في تحديد عدد المَقاعدِ التي فازت بها كل لائحة وفقاً لنسبةِ الأَصواتِ التي نالتها من مجموع المقترعين.
4- إقرار قانون أحزاب علماني يحول دون وجود أو نشأة أحزاب طائفيَّة او مذهبيَّة، او أثنيَّة او مناطقيَّة.
5- تعزيز دور السلطة التَّشريعية «التشريعي والرقابي»، على نحو يكفلُ المواكبة التَّشريعيَّةِ المُستدامة للمُستجدات عبر إقرار قوانين جديدة وتحديث ما هو موجود، بالتَّزامُنِ مع قيامها بواجبها الرَّقابي تجاه السُّلطةِ التَّنفيذيَّة.
6- تكريس مبدأ اللامركزيَّة الإداريَّة: بتوسيع صلاحياتِ السُّلطاتِ المحليَّة على نحوٍ يكفلُ تَحقيق تَنميَةٍ مُتوازِنَةٍ لدى مُختلفِ المناطِق ويُخفِّفُ من الأعباء على المواطنين ويوفِّرُ لهم الحصول على خدماتٍ ذات جودةٍ عاليَة مع ضمان وحدة الأراضي اللبنانيَّة.
ب- إصلاح إداري: يتمحور حول رفعِ مُستوى فاعليَّة مُختلفِ الإداراتِ والمؤسَّساتِ العامَّةِ والأجهزةِ العَسكريَّةِ والأمنيَّة، من خلال إعادةِ النَّظرِ بهيكليَّاتها الإداريَّة، وتشجيعها على الاستفادةِ من عمليَّةِ التَّحول الرقمي للاستفادةِ من تكنولوجيا المعلوماتِ لتحسين مستوى كفاءتها وتحسين جودةِ الخدمات التي توفِّرُها وصولاً إلى تحقيقِ الحكومَةِ الإلكترونيَّة وتعزيز الحوكمةِ بتطبيق مبدأي المُساءلةِ والمُحاسبةِ بتعزيز دور أجهزة الرقابة وتفعيل أُطرِ وآليَّات مُكافحةِ الفَساد.
ج- إصلاح اقتصادي: يقوم على تبنّي سياساتٍ اقتصاديَّةٍ مُتوازنةٍ ومُتكاملة، تُشجِّعُ الاستثمارَ في مختلف القِطاعاتِ الانتاجيَّة والحدِّ من الاقتصادِ الرَّيعي، وتَلبيَةِ احتياجات المؤسساتِ الاقتصاديَّةِ الناشئة وتشجيعِ المَشاريع الصَّغيرةِ والمُتوسِّطة لتحقيق نمو اقتصادي مُستدام.
د- إصلاح مالي: يقوم على تبنّي سياسات ماليَّة رشيدةٍ تقومُ على الشفافيَة في إدارة الأموال العامة، وضمان التَّناسبِ ما بين الإيراداتِ والنَّفاقات العامَّة بتَعزيزِ الإيرادات وترشيدِ الانفاقِ، وتحديث النِّظام الضريبي على نحو يوسِّع القاعدة الضَّريبيَّة، ويكفل مُكافحَةِ التَّهرُّبِ الضَّريبي والتَّهريب والتَّهرُّب الجُمركي؛ كما بإعادة هيكلة الدين العام وجدولة المُستحقات بالتوافُقِ مع الجهاتِ الدائنة، لضمانِ إيفائها عند استحقاقها، وتحسين كفاءة إدارة الموازنةِ العامَّة بالالتزام بعمليَّةِ قطعِ الحِساب والامتناع عن الاستدانة لسَدِّ عَجزِ الموازنات. هذا بموازاة إقرار مَصرفيَّة تركِّزُ على:
1- تصويب أداء البنك المَركزي بغرضِ ضمان تعزيز الاستقرار النَّقدي، والتَّحكُّمِ بمعدَّلات التَّضخم والتَّحكُّمِ بسوق القطعِ والحدِّ من مَخاطِرِ المُضاربات، باعتمادِ سياساتٍ نقديةٍ مُتوازنة وشفَّافة، تَضمنُ الامتثال للقوانين المحليَّة والمعايير الدوليَّة، وتوحيد سعر الصَّرف والحدِّ من التَّقلباتِ النَّقديَّةِ السَّريعَة، والاحتفاظ باحتياط كاف من العملات الأجنبية لتلبية احتياجات استيراد السلعِ الأساسيَّة والخدماتِ الضرورية، والعمل على إعادةِ النَّظرِ في الهندساتِ الماليَّةِ التي اعتُمدت خلال العقد الأخير على حِسابِ المال العام وموجودات مصرف لبنان.
2- إعادة تنظيم القِطاع المصرفي بغرضِ استعادة الثقة بالمَصارف المحليَّةِ وتنميةِ كفاءتها الماليَّةِ للتَّقليلِ وإعادةِ الرسملةِ للحدِّ من المَخاطِر، على نحوٍ يضمنُ أموال المودعين، من خلال إجراء عمليَّةِ تقييمٍ لملاءة المصارف ومقارنةِ ما لديها من أصول بالمُستحقاتِ المترتبَةِ عليها، وتقدير مدى قُدرتِها على الإيفاءِ بأموال المودعين لديها ضمن مهل معقولة، وإعادة هيكلةِ القطاع على أساس التَّقييم وتَشجيعِ الاندماجِ المصرفي.
هـ- بناء دولة القانون والمؤسَّسات: ويكون بتعزيزِ الحَوكمَةِ في كافَّة مؤسَّساتِ القِطاع العام، وإرساءِ مفهوم العدالةِ والمُساواةِ بين المواطنين على حدٍّ سَواء بغض النَّظرِ عن انتماءاتِهِم السِّياسِيَّةِ أو الطائفيَّة أو المناطقيَّة، وضمان حقوقِهم في المُشاركةِ في الحياة السياسيَّة وإدارة شؤون الدَّولة، وتعزيز التَّماسُك الاجتماعي والوطني وضمانِ الحُرِّيات وحُقوقِ الأفراد، كما ضمان مُشاركة مُؤسَّسات المُجتمع المدني بفاعليَّةٍ في رسمِ السِّياساتِ العامَّة وتبنب الإصلاحاتِ التَّغييريَّة.
و- ضمان سيادة القانون وتَحقيق العدالة: ويكون برفع مستوى الوعي السِّياسي والاجتماعي لدى أفراد المُجتمع، والقبولِ بالتَّنوّع والاختلاف في وجهاتِ النَّظر، والابتعادِ عن الخِطابات الفئويَّة، كما بضمان استقلاليَّة الجهاز القضائي، وتحصينه من التَّدخُّلاتِ السِّياسِيَّةِ أو الطَّائفيَّة، كما بإعادة هيكلة الجهاز القضائي، وإطلاق ورشة إصلاحيَّة تقوم على تَعزيزِ الشَّفافيَّة والمُساءلة والمُحاسبة داخلَ الجهاز ذاته، والسِّير قُدماً في استغلالِ التكنولوجيا الرَّقميَّة في تنفيذِ الإجراءات القَضائيَّة.
ح- تحريرُ لبنان من عزلته: ويكون باحترام لبنان لالتزاماته الدَّوليَّة، وتَعزيز صداقاته الإقليميَّة والعربيَّة، ولعبِ دورٍ تَوفيقي بين الدُّولِ الشَّقيقَةِ والصَّديقَة والإنفتاح مجدَّداً على المُجتمعين الدَّولي والعربي كدولةٍ ذات سيادة لها دورها الفاعل على السَّاحتين الدَّوليَّة والعربيَّة، وكعضو مؤسِّس في كل من الأمم المُتَّحِدَةِ وجامِعَةِ الدُّول العربيَّة.
ونكتفي بالإشارةِ إلى هذا القدر من الإصلاحاتِ الأساسِيَّة، مع التأكيد على أن التغييرِ الحقيقي يستوجبُ شمولَ الإصلاحات مُختلِفَ القِطاعاتٍ كالتَّربيَّة، التَّعليم، الصِّحة والضَّمان الصُّحي والإجتماعي الخ… وأن التَّغيير يبقى الضَّمانةَ الأساسيَّةَ للنُّهوضِ بلبنان على نحو يضمن مُستقبلاً زاهراً لجميع أبنائه.