قد أثبت الشعب اللبناني، ولأول مرة في تاريخ لبنان، بـ “انتفاضة الكرامة” العفوية التي بدأت في 17 تشرين، أن صوته العميق أقوى من القيود الوهمية للطائفية والولاء للزعيم الحزبي، وهي لن تنطفئ بوجه هذه السلطة الفاشلة والناهبة التي أوصلت الدين العام المتزايد إلى 150% من الناتج المحلّي، وهي ثالث أسوأ نسبة في العالم.
مخرج للأزمة التي يمر فيها الوطن
منذ العام 1992 ومجدداً في العام 2005، ولبنان محكوم بقوتين: قوى المال وقوة المقاومة. قوى المال تدير البلد ولا تضع قيوداً على سلاح المقاومة، والمقاومة تقاتل ولا تتدخل جذرياً بحكم الاقتصاد والمال. وصار الشعب هو الحلقة الأضعف حيث جرت التسويات على حسابه.
وبعد تدهور الوضع الاقتصادي والنقدي والمعيشي إلى حد الانهيار نتيجة أسباب تراكمية منها سرقة الشعب والخلافات السياسية وضعف كفاءة الدولة، انتفض الشعب وغيّر قواعد اللعبة وكرّس نفسه قوّة ثالثة وازنة خارجة عن القيد الطائفي والمناطقي. والآن هذه القوى الثلاث بحالة تضارب: فقوى السلطة والمال لن تقدم نفسها على مقصلة المحاسبة بإرادتها، و”حزب الله” لن يخاطر بسلاحه دون ضمانات، والشارع لن يرضى إلا بإنجازات جذرية ملموسة تلبي مطالبه.
وإذ استمر الوضع على حاله، فإن ذلك سيؤدّي إلى استمرار انهيار الاقتصاد والمؤسسات وصولاً إلى الفوضى وربما الحرب الاهلية. وتالياً فقد أصبح لا بد من إرساء “معادلة جديدة” قائمة على التقاطع بمساحات مشتركة وتضع الشعب في صلبها لتكون مخرجا للأزمة وأساساً يبنى عليه للمستقبل.
ومفتاح الحل المتاح برأيي كمواطن هو قرار استراتيجي وجريء لـ “حزب الله”، كونه يملك قوة المبادرة وليس هدفه الاستراتيجي سرقة البلد، بالوقوف إلى جانب الشارع بمطالبه المحقة أولاً وجعل كل تحالفاته السياسية بالدرجة الثانية. لأن ما سيربحه هو أكثر من حلفاء ظرفيين ومصلحيين، فالشارع هو الورقة الرابحة كبيئة حاضنة وطنية وقوة ناخبة مستقلة مستقبلية. عندها على الحزب أن يحوّل وعوده وجهوده لمحاربة الفساد والفقر إلى إنجازات ملموسة. وبالمقابل، ولكون الشارع ملزماً بمشاركة السلطة في مرحلة انتقالية بموجب الدستور، فإن الانتفاضة ترضى مرحلياً بحكومة انتقالية من اختصاصيين قياديين غير متحيزين تدير وزارات المال، الاقتصاد، العدل، والخدمات… وتتمثل الأحزاب الأساسية ذات الأغلبية النيابية بوزارات الأمن والخارجية… على أن لا يبحث سلاح المقاومة للعدو الخارجي في هذه الحكومة الانتقالية.
وبما يتعلق بقوى المال، ونظراً لشبه استحالة إرجاع الكم الأكبر من الأموال المنهوبة عملياً كما لم يحصل في مصر، وليبيا، والسودان والعراق..، فإن مخرجهم الوحيد هو تسوية برعاية قضاء مستقل، قوامها تأمين مبلغ للخزينة يفوق قيمة الدين العام البالغ 100 مليار دولار، فضلًا عن إرجاع الأملاك العامّة إلى الدولة. وتكون التسوية مقرونة بتطهير الإدارات العامة من ماكينات الفساد وتسهيل مهمة الحكومة الانتقالية في الانجازات الاقتصادية والتشريعية والاصلاحية. وإذا نجحت هذه المعادلة، فيمكن طي صفحة الماضي بمكاسب وازنة للشعب والمضي قدماً إلى المستقبل عبوراً بانتخابات لإعادة تشكيل سلطة جديدة.
ثلاثة مسارات للعبور إلى الجمهورية الثالثة
إن لبنان ليس بلداً فقيراً، بل منهوب، وهو يزخر بمقومات النجاح وطاقاته البشرية والاقتصادية فضلاً عن ثروة الغاز التي ستنجز له قفزة نوعية. والتحول إلى ‘الجمهورية الثالثة’، بعد إرساء المعادلة الجديدة، يمكن تحقيقه برأيي عبر ثلاثة مسارات متوازية ومتلازمة مع بعضها:
أوّلًا، مسار الثورة، وهي الضمانة الوحيدة التي ينبغي تطويرها لتكون قوة ضغط مؤثرة على المسار الحكومي والقضائي. أما مراحل تطوير الثورة فهي أربع:
١- استمرار الانتفاضة العفويّة، رافعة الصوت بمظاهر اعتراض متعدّدة،
٢- الانتفاضة المركّزة، بهدف الضغط على أماكن القرار بشكل مقنن، حيث العرقلة لإحداث التغيير،
٣- الانتفاضة المنظّمة، وتشكيل تنسيقيات متعددة تسعى لتوحيد البرامج لزيادة الفعالية،
٤- الثورة، أي قيادة مزكّاة وبرامج موحدة تمكّن الشارع من الوصول إلى البرلمان والسلطة.
ثانيًا، المسار القضائيّ: تكريس القضاء كسلطة رابعة عبر تشريع القوانين اللازمة لاستقلاليّة القضاء، وإجراء تشكيلات قضائية من قضاة مستقلين يتمتعون بالنزاهة والشجاعة، وتفعيل التفتيش القضائي وتشكيل هيئة لمكافحة الفساد بمشاركة الانتفاضة ذات صلاحيّات واسعة تتابع مسار الملفات.
ثالثًا، المسار الحكومي: تشكيل حكومة بصلاحيات تشريعية واسعة تركز على:
١- المحافظة على الاستقرار الأمني
٢- إدارة الأزمة الاقتصاديّة وتعزيز التعامل بالليرة اللبنانية وتقوية الصناعة الوطنية والزراعة، وتهيئة لبنان للاستفادة القصوى من إعادة إعمار سوريا من مرافىء ومطارات ونقل ومؤسسات…
٣- تطهير وتطوير القطاع العام ووقف محركات الفساد لا سيما الكهرباء والاتصالات والنفايات والأشغال
٤- تأمين الشفافية في عقود النفط والغاز
٥- تعزيز الأمن الاجتماعي والصحي
٦-تنظيم عودة النازحين السوريين لتخفيف الأثر السلبي على الاقتصاد
٧-زيادة دور وامكانات البلديات كسلطات محلية
٨-إعداد قانون انتخاب جديد يستفتى عليه من الشعب، مع خفض سن الاقتراع للثامنة عشرة وتحديد موعد لانتخابات نيابية مبكرة.
وفي حال استمرار الانهيار ونكران السلطة للشارع والمراهنة على إرهاقه، فإن الانتفاضة الثانية الجارفة لكل بيوت وأموال اللصوص آتية وقائدها الجوع وكرامة المواطن، ولا أحد يضمن ما ستكون المعادلة القادمة…
نشر ايضا” في النهار البيروتية
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا