ازمة لبنانالاحدث
مهما طغى وبغى لن يَسحب منا إِيماننا بلبنان اللبنانيّ | بقلم هنري زغيب
أَيُّ كلامٍ على لبنان الفكر والحضارة والتاريخ، فيما الوحشُ الإِسرائيلي العدوُّ ينْقَضُّ يوميًّا على أَرضنا وأَهلنا قصْفًا وتدميرًا ومَحوَ قُرًى وبلداتٍ ومدُنٍ ومعالِـمَ، جنوبًا وبعلبكًّا وبيروتًا وضواحيَ وأَحياءَ في مناطقَ حبيبةٍ من لبنانَ الحبيب؟ وهل بعدُ ما يقالُ في زمنِ تدميرٍ يوميٍّ يَقضي على أَرواح غالية جدًّا من شعبنا اللبناني، رجالًا ونساءً وأَطفالًا وشيوخًا، كأَنَّ هذه الصاعقةَ المجنونة تعمل على محو المكان، ومَن في المكان، وما في المكان، حتى الإِيغال في الدفْع إِلى الكفْر بكل مَن وبكل ما.
هل بعدُ ما يقالُ بعدَ كلِّ ما يجري؟ طبعًا: ثمة الكثيرُ بعدُ مما يقال، وسوف دومًا يقال. فنحن لسنا أَرضًا جرداءَ تُجتاحُ وتَـمَّحي، ونحن لسنا شعبًا عارضًا رحَّالًا يَهرُبُ من غُزاته، ويُقتلَع من أَرضه، ويَرتَحلُ إِلى أَماكنَ آمنةٍ كي يأْمنَ عيشَه وبقاءَه.
طوباويٌّ هذا الكلام؟ قد يبدو كذلك ظاهرًا، لكنَّه في العُمْقِ عمْقٌ ضالعٌ في التاريخ، قديمِه والحديث، لأَننا شعبٌ سليلُ ماضٍ عانى أَكثرَ مما يعاني اليوم، وبقي صامدًا في وجه كلِّ ريح وكلِّ عاصفةٍ وكلِّ محاولةِ محوٍ أَو اقتلاع.
شعبُ لبنان يعاني اليوم؟ نعم يعاني. لكنه لا ينكسر. يحتملُ ولا ينكسر. يهاجمه الوحش في كل عصرٍ وفترةٍ وزمن، ويَصمد ويَبقى ويُقاوم لأَنه يعرف أَن أَرضَه وديعةُ أَجيالٍ من عباقرة جعلُوها لؤْلؤَة الشرق ومرنى الغرب، ولن تقضي عليها حروبٌ واعتداءاتٌ وتدميرٌ مهما قسَا وعبَثَ بالمعالم. فالمعالم اللبنانية في القلوب والنفوس والذاكرة، وليست في جدارٍ يهوي، أَو منزلٍ يندثر، أَو أَفراد يُغتالون.
لبنان ليس حالةً عارضة في التاريخ، بل هو أَرومةٌ في التاريخ مجذَّرة في الأَرض والوجدان، فلن تمحوها زوائلُ مهما اشتدَّ عنفُها وتدميرُها ومحوُ عوارضَ منها.
فليس عارضًا قولُ الكاتب والدبلوماسي بول موران (1889-1971): “جاء زمنٌ كانت خلاله صيدا وصور كلَّ تاريخ العالم. وكانتَا قمةَ الفكْر المتوسطي والعلْمِ والفنِّ الزخرفيِّ والصناعة والتجارة نحو أَلفي سنة قبل الميلاد”.
وليس عارضًا كذلك قولُ المؤَرخ غبريال هانوتو (1853-1944): “ليست جبالُ لبنان هي الأَعلى في الجغرافيا، لكنها من أَعلى قمم التاريخ العالَمي. فمِن سليمان الحكيم إِلى إِرنست رينان كانت الحكمةُ الإِنسانية هانئةً في ظل الأَرز الدهريّ”.
وليس عارضًا أَيضًا وأَيضًا قولُ المفكِّر موريس بارّيس (1862-1923): “لبنان هو أَرضُ التاريخ الحبلى ببُذُورٍ للتاريخ لم تنكشف بعد”.
ويقال بعدُ الكثير، ويُستشهَد بعدُ بالكثير ممَّا قاله أَو كتَبَه عن لبنان مؤَرخون وخبراءُ عالَميُّون عرَفوا تاريخَ لبنان وعراقةَ لبنان وأُصولَ لبنان الضالعةَ في الزمان السحيق والحديث، وقالوا عنه وكتبُوا ما لم يدفعْهم إِلى قوله وكتابته إِلَّا واقعُ الحقيقة التاريخية التي لا جدال حولها ولا غموضَ ولا اعتراض.
طوباويٌّ هذا الكلام؟ أَبدًا. إِنه الواقعُ المنقذُ من كلِّ وهمٍ وكلِّ خوف. لن يدومَ ما يجري اليوم مهما عنُف وقسَا واجتاحَ واغتال، وإِنْ هو حدَثٌ صاعقٌ على شعبنا وأَرضنا قد يكون غيرَ مسبوقٍ في تاريخ لبنان الوسيط أَو الحديث. لكنه سيَمضي، وتنقشعُ غيومُه السُود، ويبقى لبنانُ الأَصيلُ صامدًا في وجه أَعدائه وخَوَنَته ووحوشٍ ضاريةٍ تَنْقَضُّ عليه، فلبنانُ التاريخ أَثبتَ أَنه يَمضي عصرًا بعد عصرٍ ضالعًا في الثبات، ولبنانُ الجغرافيا قد يشهد انزياحاتٍ سُكَّانية، لكنه لن يُبقِي عليها لأَنه ضالعٌ في الحقيقة التاريخية، هي التي عصَمَتْهُ وسوف دائمًا تَعصمُه عن كل خطرٍ مهما اشتَدَّ، وعن كل تغيُّرٍ مهما استباح.
هوذا إِيمانُنا الضالعُ فينا بلبنان اللبناني، وأَيُّ حدَثٍ، مهما طغى وبغى، لن يَسحبَ منا أَبدًا هذا الإِيمان.