ازمة لبنانالاحدث

هذا هو الرئيس الذي يستحقُّه لبنان | بقلم هنري زغيب

الحدثُ مَـــرَّ.. المناسبةُ عــبَرَت.. وبقيَ الأَثَر.. وهو في حجم وطنٍ وتاريخِ وطن.. افتتاحُ “كاتدرائية نوتردام” في باريس (بعد خمس سنوات من الترميم الدقيق منذ فاجعة احتراقها في 15 نيسان 2019)، لم يكن مجرَّدَ افتتاح مَعْلَمٍ ديني عظيم (إِحدى أَقدم الكاتدرائيات القوطية في فرنسا)، وإِنما كان إِعادةَ فتْحِ نافذةٍ ساطعةٍ على تحفةٍ نادرةٍ من تاريخ فرنسا المجيد.. كان وهجَ قرنَين مُتَتَاليَيْن (مطلع الثاني عشر حتى منتصف الرابع عشر: بين 1163 و1345) من عمليَّات بنائها المهيب تَواليًا على أَنقاض معبد أَبولون (من القرن الرابع).. كان تحيةً لشاعر فرنسا الأَكبر فيكتور هوغو (1802-1885) ورائعته الخالدة “أَحدَب نوتردام” (1831) والعصف الأُعجوبي بين إِزمِرالدا وكازيمودو.. كان احتفاءً بإِقبال 14 مليون زائر وسائح سنويًّا من جميع أَقطار الكوكب.. كان احتفاءً بإِرثٍ وطني أَشعلَ باحتراقه صدمةً وحزنًا وهلعًا في نفوس فرنسيين رأَوا في الكارثة تَشَوُّهًا ذاكرتَهم التاريخيةَ الْكانوا بها يكْبُرُون.. كان استعادةَ ابتهالاتِ 16 جرسًا على جبين الكاتدرائية رافقَت تاريخَ فرنسا ستةَ قرون.. كان انهيارَ عجوز القرن الرابع عشر أَعادها نحو 2000 مهندس وعامل صبيةَ القرن الحادي والعشرين بروعةٍ معماريةٍ أَنيقةٍ هندسيًّا وتراثيًّا تبقى للمؤْمنين والملْحدين أُسطورةَ الأَجيال دينيًّا وأَدبيًّا وفنيًّا وثقافيًّا وسياحيًّا..

لافتٌ ساطعٌ: مرَّتين زار الرئيس ماكرون ورشةَ الترميم خلال مسيرتها، حرصًا منه على متابعته شخصيًّا إِنجازَ الشغْل في هذا الإِرث الوطني، ثم دعا إِليه أَربعين حاكمًا من دُوَل العالم حضروا مهابةَ تدشينٍ تمازجت فيه أَصواتُ الحاضرين بأَصداءِ القرون الوسطى، فغطَّى الفرحُ في عيونهم حزْنَ تلك العيون نهارَ الحريق..

وبصوتٍ مسرحيٍّ شاعريٍّ راعشٍ من تأَثُّر، أَلقى الرئيسُ كلمتَه أَمامهم بغبطةٍ استذكرَ فيها عباقرةً أَوحت لهم الكاتدرائيةُ نتاجًا إِبداعيًّا (بينهم هوغو وكلُوديل)، وشكَرَ الأَيدي التي ساهمَت بانتشال الكارثة الوطنية من النار والدمار إِلى العَمار والوَقار.

كلُّ هذا الأَعلاه شِئْتُهُ مقدمةً لأَعني أَنْ: هذا رئيسٌ عرفَ (كما قليلون سواه في العالم) كيف يكونُ رئيسَ دولتِه بمؤَسساتها وحكومتِها وسُلطتِها، ولكنْ أَيضًا رئيسَ وطنه بحضارته وإِرثه وتاريخه ومجدِ أَعلامه (نتذكَّر كيف تَرَأَّس مأْتمَ جوني هاليداي وشارل أَزنافور، ودخولَ الكاتب موريس جُنُفوَى وجوزفين بايكر إِلى البانتيون)، ما يعني أَن مَجْرَيات السُلطة والدولة إِلى النسيان غدًا، وتبقى في الذاكرة إِنجازاتُ الثقافة..
ولنا في لبنان معالِمُ تاريخية وواحاتٌ ثقافية جليلة وأَعمالُ أَعلامٍ مبدعين لا يكفي للاحتفاءِ بها حضورُ أَيِّ وزير ثقافة (أَو “مَن يمثِّله”) بل تَفترض حضورَ رئيس الجمهورية افتتاحَها أَو تدشينَها أَو مشاهدتها لأَن الرئيس الذي يكتفي في حُكْمه بشؤُون “بيت بو سياسة” وحدهم، يذهب معهم إِلى النسيان..

مع اقتراب الموعد لانتخاب رئيس لبنان بعد صحراء الفراغ، ننتظر رئيسًا رؤْيويًّا لديه برنامجٌ ثقافيٌّ حضاريٌّ موازٍ برنامجَه السياسي (إِن كان لديه برنامجٌ ولا يكون فَرْز محاصصات “ساحة النجمة”).. ننتظر رئيسًا لا يكتفي باليوميات السياسية والاقتصادية بل يُولي الثقافةَ اهتمامًا لائقًا بلبنان الإِبداعي فيكونُ رئيسَ الدولة ورئيسَ الوطن معًا.. رئيسًا يعرف أَن الإِبداع الثقافي في البلاد هو الذي يُخَلِّد صورة الوطن.. رئيسًا يَقرأُ كُتُبًا وربما يَكتُب كتابًا.. رئيسًا قرأَ تاريخ لبنان ويعرف عطاءَات لبنان الحضارية فيرعاها..

هذا بعض الـمُنتظَر من رئيسٍ يستاهل أَن يَستحقَّ لبنان..

هذا هو الرئيس الذي يستحقُّه لبنان!

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى