تعدّ الموازنة العامة الوسيلة المالية الرئيسيّة لتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية السّنوية، والموازنة في العصر الحديث لم تعد صكًّا تشريعيًا تقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة وتُجاز بموجبه جباية الضرائب وإنفاق الأموال العمومية، بل أصبحت قانونًا ماليًا سنويًا يُجيز تحصيل موارد الدولة وإنفاقها سنويًا أخذًا في الاعتبار التوازن الاقتصادي والمالي، أي أنّ الموازنة أصبحت على علاقة وطيدة بالاقتصاد.
أمّا في لبنان، الذي يعاني أزمات اقتصادية دوريّة، ويُعاني الآن من أزمة اقتصادية، ماليّة، نقديّة، اجتماعية غير مسبوقة، فإنّ مفهوم الموازنة العامة فيه يشبه إلى حدّ بعيد المفهوم الوارد في النظام العام للمحاسبة العمومية الفرنسي الصادر بتاريخ 31 أيار 1862، أي منذ نحو 140 سنة، والذي أبقى خصائص الموازنة لجهة تقدير وإجازة ولمدّة محدودة، وأغفل دورها الاقتصادي والمالي. فمنذ استقلال لبنان ولغاية تاريخه لم يعرف لبنان موازنات بالمفهوم الحديث بل موازنات كلاسيكيّة قائمة على تقدير نفقات الدولة ووارداتها. لكن في ظل الانهيار، هل بإمكان موازنة كلاسيكية قادرة على إنقاذه، أم أنّ البلاد بحاجة إلى موازنة بالمفهوم الحديث؟
نعم إنّ لبنان بحاجة إلى موازنة استثنائية بدلًا من مشروع موازنة عام 2022 الذي يحفّز التضخّم والانكماش وفيه فضائح وإفقار وتجويع لأنه يتضمن الآتي:
أولًا: استمرار العجز في الموازنة الذي بلغ 15.513 مليار ليرة ونسبته 28.37% في حين يقتضي إلغاء العجز إلغاء تامًا.
ثانيًا: استدامة الدّين العام الذي بلغ حتى 31/8/2021 نحو 99 مليار دولار وزيادة بمبلغ العجز في الموازنة ليصبح الدين نحو 109 مليارات دولار على أساس سعر الصرف الرسمي (1507.5 ليرة) في حين يقتضي على الحكومة إسقاط الدين العام برمّته أو على الأقل إعادة هيكلته أو تخفيفه.
ثالثًا: الزيادة الهائلة في الضرائب والرسوم والمقدّرة بنحو 26 ألف مليار ليرة منها نحو 23 ألف مليار ليرة ضرائب غير مباشرة أي بنسبة 88%، وهي ضرائب يتحمّل وزرها الفقراء والمساكين وأصحاب الدّخل المتوسّط في حين أنّ الزيادة على ضرائب الأرباح لا تتجاوز 983 مليار ليرة ونسبتها 3.7% وهذا سينعكس فروقات في المستوى المعيشي وزيادة حدّة الصراع الاجتماعي والطبقي وتعميق حالات الفقر والبطالة خاصة وأن نسبة 82% من الشعب اللبناني يُعاني الفقر.
رابعًا: انخفاض الإنفاق الحكومي الاستثماري (البنى التحتية) فلم يخصّص له سوى 4% من الإنفاق الحكومي في حين خصّص الإنفاق الاستهلاكي بنحو 96% وهذا يعني استمرار تدنّي وسوء الخدمات العامة كافة الأمر الذي يهدّد بتوقّفها توقّفًا تامًا ولا سيّما الكهرباء.
خامسًا: الزيادة المفرطة وغير المبرّرة والتي تلامس الفضيحة في الفوائد على الدين العام:
– الفوائد على القروض الداخلية (بالعملة اللبنانية) ارتفعت من 2986 مليار ليرة إلى 6417 مليار ليرة أي بزيادة قدرها 3431 مليار ليرة ونسبتها 115%.
– الفوائد على القروض الخارجية (بالعملة الأجنبية) ارتفعت من 120 مليار ليرة إلى 1200 مليار ليرة أي بزيادة قدرها 1080 مليار ليرة ونسبتها 900% أي تسعة أضعاف.
وهذه الزيادة لا مبرّر لها على الإطلاق ولا تتناسب مع حجم الزيادة في الدين العام الذي ارتفع من 31/12/2020 حتى 31/8/2021 بمقدار 4731 مليار ليرة وما نسبته 3.28% فقط. القصد من هذه الزيادة تعظيم أرباح حملة سندات الدين بالعملتَين اللبنانيّة والأجنبيّة وخاصة الأخيرة، وبالتالي تعظيم أرباح المصارف التجارية التي لم تتحمل أي زيادة في ضريبة الدخل وفقًا لمشروع الموازنة.
هذه الفضيحة وحدها تكشف نوايا الطبقة السياسية المالية الحاكمة في الاستمرار بنهج الفساد وتكريس مكاسبها غير المشروعة وتعظيم ثرواتها وإثرائها غير المشروع على حساب الدولة والشعب ومن الأموال العمومية.
سادسًا: تعدّد أسعار الصرف المعتمدة في تقدير الواردات والنفقات فقد تراوحت بين الـ 2000 ليرة والـ 20.000 ليرة مقابل كل دولار، ويكاد يكون لكل نفقة وإيراد سعر صرف معتمد، وبذلك تكون الموازنة فاقدة للوضوح والشفافية والقابلية للفهم والمقارنة والمقابلة وهذه من الخصائص الأساسية لوضع ودراسة البيانات المالية وخاصة إذا كانت هذه البيانات تتعلّق بالمال العام.
سابعًا: فقدان المبادئ والمعايير والأسس الموحّدة في إعداد الموازنة إذ تمّ اعتماد عملتَين في تقدير الإيرادات بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي (رسوم المرافئ والمنائر ورسوم المطارات) والزيادة على الضرائب تمّت إمّا بواسطة زيادة أو فرض معدّلات جديدة على بعض الضرائب والرسوم مثل الرسوم العقارية والرسوم على المستوردات والرسوم الجمركية والضريبة على الفوائد، في حين تمّت الزيادة باعتماد أسعار صرف مرتفعة للدولار على بعض الواردات، كالضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية ورسوم المغادرة ورسم الطابع المالي، وفي ضرائب أخرى تم اعتماد معيارين: زيادة معدلات الضريبة، واعتماد سعر صرف مرتفع للدولار.
أمّا لجهة النفقات، فإنّ تقديرها يختلف بحسب طبيعة النّفقات، فإذا كانت ثابتة كالرواتب والأجور وأقساط القروض والتي لا يطرأ عليها تغييرات كبيرة من سنة إلى أخرى فمن السّهل تقديرها استنادًا إلى تقديرات السنة السابقة وإلى أعداد الموظّفين ورواتبهم، أمّا النفقات المتغيّرة كنفقات الصيانة والترميم والاستشفاء ونفقات التّجهيز والإنشاء (البنى التحتية) فإنّ تقديرها يرتبط بالأوضاع الاقتصادية وتقلبات الأسعار استنادًا إلى المؤشرات والمعطيات الاقتصادية والمالية السائدة والمرتقبة واسترشادًا بخطة الحكومة ورؤيتها حول التوسّع بالإنفاق أو الحدّ منه انطلاقًا من الأوضاع الاقتصادية السائدة في البلد.
ولأنّ الحكومة لم تضع خطة شاملة للإصلاح الاقتصادي أو ما يسمّونه خطّة تعافٍ فإنّ تقديرات النفقات العمومية جرت استنادًا إلى النفقات المقدّرة في السنة السابقة والمقيّمة على سعر الصرف الرسمي لليرة 1507.5 ليرة وجرى تعديلها وفقًا لأسعار صرف متعدّدة شبيهة بأسعار الصرف المتعددة المعتمدة من مصرف لبنان والتي تراوحت بين 2000 ليرة والـ 20000 ليرة وسعر منصّة صيرفة، وبذلك تكون الحكومة باعتمادها أسعار صرف متعدّدة تكرّس الحالة الشاذّة السائدة في سوق النقد في لبنان، وتكرّس سياسة خفض سعر صرف العملة الوطنية كوسيلة لتحميل الشعب اللبناني الخسائر المالية اللّاحقة بالدولة ومصرفها المركزي بدون أي رؤية أو خطة للإصلاح.
ثامنًا : الإنفاق الوهمي. فقد بلغ اعتماد احتياطي الموازنة (احتياطي النفقات الطارئة والاستثنائية) 9212 مليارًا ونسبته 17% من إجمالي النفقات. ولأول مرّة في لبنان يجري رصد احتياطي بهذه النسبة العالية (نحو خمس الموازنة تقريبًا) ويبدو واضحًا نيّة الحكومة من تضخيم حجم الاحتياطي بأنها ستعمد إلى رفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى سقوف تصبح معها اعتمادات الموازنة بالنسبة إلى التضخم هزيلة جدًا، وهنا لا بد أن يراودنا شكّ بأن الحكومة تنوي فعلًا إجراء خفض جديد على سعر صرف العملة الوطنية بقصد تحميل كامل الخسائر للشعب بدلًا من توزيعها بشكل عادل على كل من استفاد من المال العام بصورة غير شرعية أو غير قانونية، ولا بد من الإشارة أيضًا إلى أنّه يُضاف إلى احتياطي الموازنة احتياطات ونفقات شتّى بقيمة 144 مليار غير مخصّصة لنفقات محددة.
تاسعًا: دعم المحروقات. فبعدما رفعت الحكومة الدعم عن الدواء والغذاء والاستشفاء والتعليم، عادت إلى رصد مبلغ 1800 مليار لدعم المحروقات أي لدعم مافيات المحروقات والمولدات الكهربائية التي عجزت الحكومة عن رقابتها وإلزامها احترام التسعيرة التي تعتمدها وزارة الطاقة وتركيب عدادات للمشتركين، وذلك لتحقيق أهداف الحكومة برفع تعرفة مؤسّسة كهرباء لبنان ما بين 16 و20 ضعفًا تمهيدًا لبيعها وخصخصتها.
عاشرًا: مخالفة الدستور وقانوني النقد والتسليف. إذ تضمّنت الموازنة أحكامًا تشكل خرقًا فاضحًا للدستور وانتهاكًا صريحًا لقانون النقد والتسليف، فقد منحت الموازنة (المادة 109) وزير المالية بالنسبة للضرائب والرسوم التي تحقّقها وتحصّلها وزارة المالية، ووزير المالية والوزير المختص بالنسبة لسائر الرسوم الأخرى لمدّة سنتين من تاريخ نفاذ قانون هذه الموازنة، حقّ تعديل التنزيلات والشطور والنسب المتعلقة بتلك الضرائب والرسوم بموجب قرارات تصدر عنهما استنادًا إلى مقتضيات الوضع الاقتصادي ونسب التضخّم.
إنّ العناصر الثلاثة التي مُنح وزير المالية والوزير المختص حقّ تعديلها وهي التنزيلات أي الإعفاءات الضريبيّة للمكلّف بالضريبة، والشطور وهي شرائح الأرباح أو الأموال الخاضعة للضريبة، والنسب وهي معدلات (أو أسعار الضرائب)، هذه العناصر الثلاثة هي أركان الضريبة الأساسية التي من شأنها خفض أو زيادة مقدار الضرائب تبعًا لخفض أو زيادة هذه العناصر، أي تعديل أو إلغاء الضرائب والرسوم. وصلاحية تعديل الضرائب والرسوم مخصّصة حصرًا لمجلس النواب، أي للشعب ولا يمكن تفويضها لا للحكومة مجتمعة ولا لوزير منها.
أما المادة 133 من مشروع الموازنة فقد أجازت للحكومة أو لوزير المالية بتفويض منها تحديد سعر تحويل العملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية من أجل استيفاء الضرائب والرسوم، وهذه المادة مخالفة للدستور ولا سيّما المادتين 81 و82 منه للأسباب المذكورة أعلاه ومخالفة لقانون النقد والتسليف ومعايير المحاسبة الوطنية والدولية.
إنّ سعر الصرف هو نسبة التبادل بين عملتَين مختلفتين، وفيما يتعلّق بلبنان هو نسبة التبادل بين العملة اللبنانية (الليرة) وأي عملة أجنبية أخرى، وقضى التصميم المحاسبي العام اللبناني بوجوب تسجيل العمليات المحددة بعملة أجنبية في السجلات المحاسبية على أساس ما يعادلها من عملة وطنية وذلك بتطبيق سعر الصرف السائد بين العملة الوطنية والعملة الأجنبية بتاريخ حدوث العملية. أما معايير المحاسبة الدولية IFRS فقد أوجبت أن تسجل العملية المحدّدة بعملة أجنبية على أساس ما يعادلها من العملة الوطنية وذلك بتطبيق سعر الصرف السائد بين عملة التقرير (العملة الوطنية) والعملة الأجنبية بتاريخ حدوث العملية والذي يطلق عادة السعر الفوري، وعليه كيف يحدّد سعر الصرف السائد بتاريخ حدوث العمليات المالية (التجارية) ومن هو المرجع الصالح لتحديد هذا السعر.
يتحدّد سعر الصرف في سوق حرّة على أساس العرض والطلب واستنادًا إلى المؤشرات والمعطيات الاقتصادية والمالية على أن يعلنه المصرف المركزي الذي منحته الحكومة بموجب قانون النقد والتسليف دون سواه امتياز إصدار النقد وأوكلت إليه مهمّة المحافظة على النّقد وسلامته والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي وسلامة أوضاع النظام المصرفي وتطوير السوق النقدية والمالية. ولتحقيق هذه المهمّة، فقد منح القانون مصرف لبنان حقّ استعمال الوسائل التي يرى أنّ من شأنها تأمين ثبات القطع أي ثبات سعر الصرف أو سعر التحويل ومنحه أيضًا الحق بأن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشتريًا أو بائعًا ذهبًا أو عملات أجنبية، على أن تقيّد عمليات المصرف المركزي على العملات الأجنبية في حساب خاص يسمى «صندوق ثبات القطع»، وعليه فإنّ مصرف لبنان هو وحده صاحب الصلاحية في التدخّل للتأثير على أسعار الصرف، ووحده القادر على تحديده يوميًا ولجميع الغايات، وبالتالي يستحيل قانونًا وتطبيقًا أن تُمنح هذه الصلاحية لأي مرجع آخر لا للحكومة ولا لوزير المالية لعدم قدرتهما على متابعة تطورات أسعار الصرف لحظة بلحظة ويومًا بيوم وتحديد سعر الإقفال في نهاية كل يوم، إن هذه المتابعة تتطلب أن يكون مجلس الوزراء في اجتماع دائم وهذا من رابع المستحيلات.
وأخيرًا، إنّ هذه الموازنة تشفط الأموال من المواطنين الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وكافة المواطنين وتضخّها في جيوب الأغنياء وأصحاب رأس المال المصرفي والاحتكارات والكارتيلات الذين يكتنزون هذه الأموال أو يحوّلونها إلى الخارج ولا يستثمرونها في الداخل فيؤدي ذلك إلى لجم الطلب على الاستهلاك وإلى تراجع الإنتاج المحلي فيزداد العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات والعجز في المالية العامة فيزداد الدين العام وتنخفض قيمة العملة الوطنية وتحدث الزيادة في الأسعار.
إذًا هذه الموازنة تؤدّي إلى تضخّم انكماشي وإلى مزيد من التدهور في مستوى معيشة المواطنين.
موجبات الطعن والإبطال
نصّت المادة 81 من الدستور على أن «تفرض الضرائب العمومية ولا يجوز إحداث ضريبة ما وجبايتها في الجمهورية اللبنانية إلا بموجب قانون شامل تطبق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانية دون استثناء»، ونصّت المادة 82 من الدستور على أنه «لا يجوز تعديل ضريبة أو إلغاؤها إلا بقانون»، وبذلك يكون الدستور قد حفظ حصرًا صلاحية إحداث أو إلغاء أو تعديل أي ضريبة للشعب الممثل بمجلس النواب، وبالتالي تكون الموازنة قد خرقت الدستور وتستوجب الإبطال لهذه الناحية