هل يمرر صندوق النقد الدولي الوقت أيضًا؟ | كتب البروفسور مارون خاطر والبرفسور نيكول بلوز بايكر
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
تُشَكِّلُ المُراوَحَة والمُراوَغَة العنوانَين الأساسيَّين لِمَرحلةِ تَعليقِ تَعطيلِ الحكومة اللبنانية وعَودة التَّطبيع بين أعضائها. لا تَختَلِفُ المرحلةُ الحاليَّةُ عن مرحلتيّ الغرام والانتقام السابِقَتَين لناحية غياب الشفافيَّة والتواصل. إلَّا أنها تتميَّز بالتلطّي خَلف شروط صندوق النقد الدولي بهدف التمادي في عَدَم الجِدِّية في التعاطي مع الملفَّات كجُزءٍ من لُعبةِ تَمريرِ الوَقت التي يُتقِنها المُتعاقبون من الحُكَّام كما العائدون مِنهُم. قد يَتَماهى هذا السلوك مع تَطَلُّعات البعض مِمَّن يوافقون على التفاوض مع الصُّندوق في العَلَن ويَرفُضونَه في السِّر. الأكيد أنَّه لا يُمكن أن يكونَ جَميع المُتَتَالين على الحُكم في لبنان جَهَلةٌ، بل إنَّ الجَهلَ مَقصودٌ كما أنَّ التَسويفَ والتَّوافقَ والتَماهي والتَّمييعَ أفعالُ قَصد. دَفَعتنا المُقاربة السيِّئة لملفَاتٍ مفصليَّة، وهي ضبط رأس المال (كابيتال كونترول) والموازنة وتَوحيد سعر الصَّرف وتوزيع الخسائر، إلى تَوجيهِ رِسالةٍ مَفتوحة إلى صُندوق النَّقد في مسعىً لوقف تَسخير ما يَطلبُه من إصلاحاتٍ لِخِدمَةِ سلوكيَّاتٍ وأهدافٍ مَشبوهة.
فالكابيتال كونترول، الذي تأخَّرَ إفساحًا في المجال لخروجِ أموالِ النافذين، سَقَطَ رفضًا ثم تأجيلًا قبل أن يَغيبَ إلى غَيرِ رَجعة. حوَّلت السياسة المشروع، الذي أراد منه صُندوق النَّقد سبيلًا لمنعِ تهريب ما سيُضَخُّ من أموال، إلى مجموعة تدابير ضَحِلَة تُكَبِّلُ الاقتصاد وتَقتَصُّ من المودعين من غَيرِ أصحابِ النُّفوذ. فليس المَطلوب أن يُشَكِّل الكابيتال كونترول مانعًا لخروج الأموال بل مُوَجِّهاً للتدفّقات النقديَّة الدَّاخلة والخارِجَة ومنصَّةً لِدَعمِ القِطاعات الإنتاجيَّة، وهو ما أطلقنا عليه في دراساتنا السابقة مُسمَّى “الكابيتال كونترول الذَّكي”. من ناحية أُخرى، لا يَهدُفُ وضع ضوابط على رأس المال، كما يتمنَّاه صندوق النَّقد، إلى تَخفيض عَجز ميزان المدفوعات عَبر المَنع المُطلَق للاستيراد بل إلى اعتماد ميزان المدفوعات، ولا سيَّما حساب الأخطاء والإغفالات، كمُنطَلَقٍ لكشف التَّهريب ومُكافَحَتِهِ. تَبدو بعضُ المشاريع المشبوهة وكأنها محاولاتٌ لتغيير هَويَّة لبنان الاقتصاديَّة والسياسيَّة أكثر من كونِها حلولًا وتدابيرَ إنقاذيَّة.
أمَّا إقرار مشروع الموازنة، وَقَد جَعَلَ العَودَة المُقيَّدة لجَلَسات الحكومة تبدو وَكأنَّها لَفتَةٌ إنسانيَّةٌ أقرَبُ إلى الرأفة بالشعب الجائع، فلا يُشكِّل شرطًا أساسيًا من شروط الصُّندوق للإفراجِ عن التمويل كما تمَّ التَّسويق له. فالموازنة بالنسبة الى الصُّندوق وسيلةٌ للتأكُّد من قدرة الدَّولة على الإيفاء بالتزاماتها المستقبلية بالاستناد إلى تقييم قدرتها على جعل الدين العام مُستدامًا.
فالصندوق يُرَكِّز على خَفض العَجز في اطار سياسةٍ ماليَّةٍ متكاملة بالإضافة الى إعادة هَيكَلَة النِّظام الضَّرائبي وتحديد النَّفقات وتوزيعها.
إستَنهَضَ عباقرة الحُكم قُدُراتهم الخارقة لإنجاز مشروعَ الموازنةِ الموعود، فجاء كمثالهم هزيلًا ويفتقد إلى الواقعيَّة، لا بل إلى المَنطِق. لا يأتي المشروع على ذِكر الدَّين العام ولا يقترح حلولًا لإنهاء أزمة سداده المُتَعَثِّر.
من ناحية تخفيض العجز، يَرتَكِزُ المشروع على زيادة الايرادات عَبر زيادةٍ مُقَنَّعةٍ للضرائب والرُّسوم؛ وفي هذا أساس المُشكلة. فبالإضافة إلى عَدَم البَحث في “ترشيق” القِطاع العام المُتخَم وغير المُنتِج بُغيَةَ خفض نفقاته، لَحَظَ مشروع الموازنة العَتيدة زيادات جُنونيَّة على الرسوم ورَبَطَ الضَّرائب بسعر الصَّرف الذي بَقيَ غيرَ مُحدَّد في سابِقَةٍ ماليَّة ونَقديَّة تُسَجَّل للتاريخ. إلّا أنَّ الأخطر في كُلِّ ذلك هو أنَّ زيادة الرسوم والضرائب في الوقت الذي يَغرق لبنان في أزماته لن تؤمّن إلَّا إيراداتٍ دفتريَّة ووهميَّة للدولة. تؤكّد النظريات الإقتصادية أن الزيادات الإضافيَّة على الرسوم والضرائب تُسَبِّبُ انخفاضًا في قيمة الدَّخل وحجم الاستهلاك مما يؤدي إلى انخفاض إيرادات الدولة. بذلك، وبدلًا من أن تتمَّ إعادة المُتهرِّبين إلى حضن الدَّولة والمؤسّسات، تُساهِمُ التدابير الضرائبية للموازنة بدفع المُلتزمين إلى مَتاهاتِ التَهَرُّب وغياهب الاقتصاد السِرّي الأسوَد.
يُشَكِّلُ توحيدُ سعر الصَّرف الرَّكيزةُ الثالثة لرسالتنا المُوَجَّهة إلى صندوق النَّقد بعد الكابيتال كونترول والموازنة. إنَّه أحد أبرز وأشمل الإصلاحات التي يطلُبُها الصندوق. حَوَّلت السياسة توحيد سعر الصَّرف من عمليةٍ متكاملةٍ لها شروطها إلى مُجَرَّدِ شِعارٍ فارغ المعنى والمَضمون. لا بُدَّ لأي عمليَّة توحيدٍ للسعر المُعتَمَد أن تبدأ بالاتفاق على نظامٍ مُحدَّدٍ لسعر الصَّرف.
تَنطلق بعدها عمليَّة تَحديد حَجم العرض والطَّلب على السوق الداخلية كنتيجةٍ لِدَولَرَة الاقتصاد، ثم على سوق التعاملات الخارجية. لا يُمكن أن تَتِمَّ هذه الخطوة ما لَم تُضبَط السوق ويُمنَع التهريب وتُفرَض سيادة القانون الغائب. يأتي ذلك في إطار خُطَّة ماليَّة مُتَكامِلة تَستَوجِب تعزيز استقلاليَّة المصرف المركزي لضمان تَطبيقِها. إنَّ أيَّ تحديدٍ لسعر الصَّرف لا يُراعي هذه الأسس يمكن اعتباره جريمَةً بِحَقِّ الاقتصاد اللبناني. ليس سِعرُ الصَّرف رقمًا يُحَدَّدُ ويُعَدَّلُ ويُوَحَّدُ بل مؤشرٌ إلى بدايةِ استقرارٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ ونقديٍّ مُستدام يُدافع المَصرِف المركزي عنه عبر التدخُّل في سوق القطع وهو ما ليس متاحًا راهنًا. نُشير في هذا الإطار إلى أن خطوات المصرف المركزي الأخيرة لا تتعدَّى كونَها تدابيرَ موضِعيَّة تَستَنِدُ إلى قواعدَ نظريَّة صحيحة قد تُساعد في تخفيض حجم العمليات على السوق الموازية بدون أن تتمكّن من إلغائها ولا من إيجاد حَلٍّ لمشكلةٍ أساسُها سياسي وماليّ قَبل أن يكونَ اقتصاديًّا ونقديًّا.
نَنتَقلُ إلى توزيعِ الخسائر وهي أكذوبةٌ لا يُصَدِّقها حتَّى مطلقوها الذين لم يتوانوا عن تَحميل المودعين الخسائر كاملة. نعم، لن يكون هناك من توزيعٍ للخسائر إلّا بين المودعين الذين لم تُمَكِّنهم السياسة والنفوذ من تهريب أموالهم إلى الخارج أمام أعين هيئة التحقيق الخاصة وسائر الاجهزة الماليَّة والرقابيَّة. نُضيفُ استطردًا أنَّه من المُعيب تَصنيف المودعين صغارًا وكبارًا، فالتَّصنيف يَجوزُ حصرًا بين “كِبار السارقين” وساِئرِ المودِعين. إنَّ كُلَّ كلامٍ عن توزيعٍ عادلٍ للخسائر ليس إلّا من قبيل المزايدات السياسية والإنتخابية ومن قبيل استغباء المودعين وايهامهم ظُلمًا وكذبًا بأنَّ حلًا لا يزال مُمكِنًا لمشكلتهم. إنَّ مَن يَمتَلِكُ وقاحَةَ طَرحِ “لَيلَرة” الودائع كحلٍّ لردم فجوةٍ ساهمَ هو نفُسهُ في تعميقها، لا يُمكن الوثوق بعدله في توزيع الخسائر ولا بِعَزمِهِ على توزيعها أصلًا.
بالإستناد إلى كُلِّ ما تَقَدَّم نسأل:
ألا يَعلم صُندوق النَّقد أنَّ الذين يتعامل معهم في لبنان يَمتَهِنون المُراوغَة والمُماحَكة والتَحايُل والتَّمييع والتَلَطّي والتَخَفّي؟
ألا يَعلم أن مَن يَعودُ إليه بمشروع كابيتال كونترول أسوأ من الذي رَفَضَه هو نفسهُ لَن يُجدي البحث معه عن حلول نافعة؟
أيَغفَلُ عن الصندوق أن خَفض العجز عَبر زيادة الإيرادات وتَغييب الإصلاح يساوي حُكمَ إعدامٍ بحق الاقتصاد والبلاد؟
أيَجهَلُ الصُّندوق أنَّ ما يُقتَرَحُ من رسومٍ وضرائب سيُفرَضُ على المؤمنين بالدَولة ولن يُزعِجَ المُتمرِّدين الإستقوائيين؟
ألا يَدري الصُّندوق أنَّ توحيد سِعر الصَّرف يتطلَّب ضَبطَ الحدود وفَرضَ سُلطَة القانون وإحقاق الحَقّ؟
ألا يَعي الصُّندوق أنَّ مَن يَقترِح عَلَيه “لَيلَرَة” الودائع لإطفاء الخسائر عابثٌ بالأمانة ومتواطئ مع المصارف ضدّ أصحاب الحُقوق؟
ماذا لو كان الصُّندوق يَعلَم كلَّ هذا… وهو بالتأكيد يَعلَم!
هل يُفرَجُ عن التَّمويل بغضِّ النَظَر عن الإصلاحات والفساد والقُدرَةُ على السَّداد؟ أم أنَّ التفاوض من خَلف الشاشات والإكتفاء بإعلان النيات جُزءٌ مِن لُعبة تَمرير الأيَّام والسَّاعات بانتظار ذهاب سلطة الإصلاح الملطّخةٍ بالفساد؟
هل يَأمل الصندوق أن يَتمَّ التعويض عَمَّا نُهِبَ عُنوةً ولن يعود يومًا، عَبرَ تَغيير حَقيقيّ يُنتجه صُندوق الانتخابات؟
الجواب رَهنُ الآتي مِنَ المفاوضات والأيام…
مصدر المقال: اضغط هنا