هل يُشكِّلُ اتفاقُ الهدنة مدخلًا لاتفاقٍ يرسي وقفًا دائمًا لإطلاق النار؟ | بقلم العميد د. عادل مشموشي
حرصت الإدارة الأميركيَّة وهي توشك على توديع البيت الأبيضِ أن تختم ولايتها ولو بإنجازٍ بسيطٍ يتعلَّقُ بالصِّراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط، والذي انشغلت به على امتداد أربعةِ عشر شهرًا، حاولت بادئ الأمر أن تُمرر هدنة مُتواضِعَةً في قِطاعِ غَزَّةَ تُشرفُ خلالها على إتمام صَفقًةٍ ثانيَةٍ لتَحريرِ بعضٍ مما تبقى من أسرى إسرائيليين مُقابل إطلاق سراحِ عددٍ من المُحتجزين الفلسطينيين في السُّجون الاسرائيليَّة، إلَّا أن تلك المُحاولاتِ باءت بالفَشلِ نتيجَةَ التَّعنُّتِ الإسرائيلي المبني على تشدُّدٍ رئيس وزراء الكيان بمواقفه تجاه غزة، رغبةً منه في إبقاء الأمور عالقة لحين تمكُّنِه من استكمال تنفيذِ مُخطَّطته التَّهجيري لسُكان القِطاع ووضع إسرائيل يدها عليه، وفي المُقابل لتمنُّع منظَّمةِ حماس عن تقديم المزيد من التَّنازلات بعد استشهادِ قائدها “يحي السنوار” الذي عزَّز استشهادُه عزيمةَ المقاتلين بتشبثهم بعقيدتهم القتاليَّة القائمةِ على مقولة “إما النَّصرُ وإما الشَّهادة”، ذاك الاعتقادُ الذي أعانهُم على الصُّمود في وجه ألة الحرب الإسرائيلية لما يزيدُ عن العام رغم التَّدميرِ وحرب الإبادَةِ المُمنهجةِ التي شنَّها العدو على قطاعِ غزَّة.
وبمُجرَّدِ أن أدركت إدارةُ بايدن استحالة تمرير عملية تبادلٍ للأسرى في غزَّة استدارت نحو الجبهة اللبنانيَّة، مُستفيدةً مما حقَّقه موفدها آموس هوكشتاين في وقتٍ سابقٍ غذ نجحَ في إبرامِ اتِّفاقِ ترسيمِ الحُدودِ البَحريَّة ما بين لبنان وإسرائيل، كما سبق له وأحرزَ تقدُّمًا ملحوظًا على طريقِ إستكمالِ العمليَّةِ ببدء تَرسيم الحُدودِ البريَّةِ والتي حالت الحربُ الدائرةُ حاليًّا دون استكمالها، وخاصَّة بعد أن أقدم حزب الله على تحريكِ الجبهةِ اللبنانيَّة مُعتبرًا إياها جبهةَ إسناد لغزة. واشترطَ وقف الأعمالِ القتاليَّةِ عبرَها بوقفِ الاعتداءِ على غزة، رابطًا الجبهتين ببعضِهما البعض.
أتاح إصرارُ أمين عام الحزب الفرصَةَ للعدو الإسرائيلي للتَّجهُّزِ لحربِ تصفيَة حساباتٍ مع حزب الله لإنجازِ ما عجزَ عن تحقيقِهِ في حرب ٢٠٠٦، والتي اُنهيَت على زغلٍ بموجبِ قرار مجلس الأمن رقم 1701/2006، والذي وضع التزاماتٍ على طَرفي النِّزاع أهمُّها انسحاب جيش الإحتلال من كامل الأراضي اللبنانيَّة، وانسحاب مقاتلي الحزب لشمال مجرى الليطاني، وقامَ على فرضيَّةِ لا غالب ولا مَغلوب؛ ورغم ذلك ادعى كلُّ طرفٍ انتصاره في الحرب، الأمر الذي أدى إلى انعدامِ الثِّقةِ بينهما، وأخذ كُل فريق يتحسَّبُ لمكائدِ الآخر ويتهيَّأ لمُنازلةٍ جديدة.
وما إن انتهت الحرب حتى بدأ الطَّرفان استعداداتهما، بحيث عَمِلت إسرائيلُ على تنميةِ قدراتِ جيشها، بإجراء تدريبات شبه مُستدامة، وإجرت وحداته العديد من المناورات العسكريَّة داخل اسرائيل وخارجها، لمُحاكاةِ حربٍ افتراضيَّة قد يخوضها مُستقبلًا على الجبهة اللبنانيَّة. في المقابل سعى حزب الله، الذي اكتسبَ مقاتلوه خُبراتٍ ميدانيَّةٍ من المَعاركِ التي شاركوا فيها في كل من سوريَّةَ والعراق واليمن، إلى تعزيز قدراتِهِ العَسكريَّةِ واللوجستيَّةِ، بحيث أجرى العديد من الدَّورات القتاليَّةِ لعشراتِ الآلاف من المُقاتلين، وخزَّن ما يزيد عن مايَّةِ ألفٍ من الصَّواريخِ والمُسيَّراتِ الذكيَّةِ والتي أضيفت الى ما كان لديه من صواريخ وأسلحةٍ تَقليديَّة.
الحربُ الحاليًّةُ، التي استعدَّ لها طرفا النِّزاع مُسبقًا لم تكن حساباتٌ بيدرها لدى كِلي الطَّرفين متوافقةً مع حسابات حقولِ الاستعداداتِ والتَّمريناتِ التي سبقَ وأجروها؛ ذلكَ أنه في الوقت الذي كانت إسرائيل قد استعدَّت للجبهةِ الشَّماليَّةِ فوجئت بفتحِ جبهَةٍ في إحدى خاصرتيها الدَّاخليَّة “قطاع غزَّة؛ في المقابل حزب الله، الذي كان قد استعدَّ ميدانيًّا بحفرِ الخنادقِ والأنفاقِ ومخازنِ الأسلحة وأعَدَّ العديد من مِنصَّات إطلاقِ الصَّواريخ تحت الأرض وفوقها، فوجئ بفتح معركة سيبرانيَّةٍ، لم يكن يحتسِبُ لها. طاولت بنيتَه التَّنظيميَّةَ العسكريَّةَ وقيادته السياسيَّة؛ إذ باغتته إسرائيلُ بضرباتٍ استباقيَّةٍ مُتلاحقةٍ مؤلمَةٍ، تمكَّنت بنتيجتِها من تحييدِ الآلاف من مُقاتليه وعَشراتِ من قيادييه، ومئاتِ مخازن الأسلحة ومنصاتِ إطلاقِ الصَّواريخ التي أعدَّها، وتلتها بتصفيَةِ مُعظم قيادييه العَسكريين والسِّياسيين، مُستثنيةً من يشغل مناصب سياسيَّةٍ رسميَّة، كلُّ ذلك حدَّ من قُدرتِهم على القِيادَةِ والتَّحكُّمِ خلال المَعركة، واستكملت أنشطتها العدوانيَّةٍ باستهداف عموم عناصر الحزب، الأمر الذي اضطرَّه إلى الاستعاضةِ عنهم بقياديَّين ومقاتلين حديثي الخبرة مقارنةً مع أسلافهم الذين حلوا مَحلَّهم، وإدارة المعركةِ بالمقاتلين المنتشرين على الجبهةِ، وبما تبقى لديهم من أسلحة، باعتمادِ إدارةٍ لامَركزيَّةٍ للنِّيران.
الانتكاساتُ الاستخباراتيَّةُ التي مُني بها حزب الله، انعكست على أرض المَعركةِ مُتسبِّبةً بخسارةِ لعددٍ كبير من المُقاتلين المُخضرَمين ولمُعظمِ مخازنِ ترسانتِهِ الصَّاروخيَّة، الأمر الذي أتاح للعدو التَّوغل إلى القرى المنتشرة على امتداد الحدود اللبنانيَّة ـ الفلسطينيَّة، وتدميرِ مُعظمِ أحيائها السَّكنيَّة، هذا بالإضافةِ إلى استهدافِه للعديد من الأحياء السَّكنيَّة في مدن وقرى بعيدةً عن خُطوطِ المواجهةِ، منتشرةً على امتداد الأراضي البنانيَّة من أقصى الجنوب الى أقصى البقاع شمالًا مرورا بمُدن صور والنَّبطيَّةِ والعاصِمَةِ بيروت (وضاحيتِها الجنوبيَّةِ) وبعلبك والهِرمل، وهذا ما أدى إلى نزوحِ ما يقارب المليون ونصف مليون مواطن من سُكان المناطق المُستهدفة، وبالتَّزامن مع ذلك أقدمَ العدو على تعطيل منافذِ العبورِ الرسميَّةِ وغير الرَّسميَّةِ على امتدادِ الحُدودِ اللبنانيَّةِ ـ السُّوريَّة.
أصرَّ العدو على إجراءِ المُفاوضاتِ تحت نارِ الحربٍ الذي يدركُ أنها غير مُتكافئةٍ وغير مُتناسبةِ من حيث أعداد النازحين والخسائر التي لحقت بالطَّرفين، وذلك بغرضِ فرضِ شروطِهِ الإذعانيَّةِ على حزب الله الدَّولةِ البنانيَّة والتي ثبتَ عجزها عن تنفيذِ التزاماتِها التي نصَّ عليها القرار 1701 الذي أنتهت حرب 2006 على أساسه، وبدت خياراتُها في هذا الإطارِ محكومةً بتوجُّهات حزب الله الذي أعاد نشر مُقاتليه على امتدادِ الحُدود الجنوبيَّة، مُستأثرًا بقرار الحرب والسِّلم، ومتحكّشمًا بعمليَّةِ صناعَةِ القرار السِّياسي داخليًّا وخارجيًّا، ومعوِّقًا إنجازَ الإستحقاقاتِ الدستوريَّة…
هذه الهدنة المُحدَّدةِ زمنيًّا تُمليها حاجةُ الطَّرفين المُتقاتلين لأخذِ قِسطٍ من الرَّاحةِ والتقاطِ الأنفاس لإعادة ترميم واستدراكِ ما ألحقتهُ الحرب بهما من أضرارٍ ونقصٍ في الأسلِحَةِ والعِتاد، كما أن السُّلطاتِ اللبنانيّةَ ترى في مدَّة الهدنة (ستون يومًا) فرصةً للعملِ على تثبيت وقفِ الحرب، ومُعالجَة مُشكلةِ النازحين التي عطَّلت العام الدراسي وتسبَّبت بأزماتٍ حياتيَّةٍ ومعيشية لدى عموم اللبنانيين، أما إسرائيل التي درجت على انتهاك القرار 1701 بخروقاتها الجويَّةِ شبه اليوميَّة، تعاملت مع هذه الهدنةِ وكأنَّها فترةً تجريبيةً للتَّحقُّقِ من مدى التِزام لبنان والحزب بمندرجاتِ القرار 1701 مُضافًا إليها شروطُها الجديدةِ المُعلنةٍ وغير المُعلنَة، كوقف تسريب الأسلحة لحزب الله من خارج لبنان، وضمان عدم ترميم الأنفاقِ ومِنصَّات إطلاقِ الصَّواريخ، والامتناع عن إعادةِ بناء ترسانتِهِ التَّسليحيَّةِ ضمن المَساحَةِ الفاصِلَةِ ما بين الحُدودِ الجنوبيَّةِ ومَجرى نهرِ الليطاني، وإبقائها خاليَةً من الأسلِحةِ غير الشَّرعِيَّة؛ ويبدو أن ثمَّةَ شُروطًا تتعلَّقُ بوضعِ اتِّفاقِ الطَّائفِ موضعَ التَّنفيذِ بدءًا بانتخابِ رئيس للجُمهوريَّة. تلك الشُّروط مُجتمعةً ما كان ليقبل بها الحزب ومن خلفه إيران لولا النتائج التي أفضَت إليها الحرب.
يُصِرُّ قادةُ العدو الإسرائيلي بحصرِ المُفاوضاتِ بهدنٍ مؤقَّتةِ ورفضِ التَّباحثِ بوقف نهائي لإطلاق النار، لأنهم استقوا العبرَ من المقارباتِ السَّابقة، والتي يرون أنها أفضَت إلى جولاتِ قتال مُتكَرِّرة عمليَّةُ طوفان الأقصى آخرها ولكن إن بقيت المقاربات بئات النَّمطيَّةِ فلن تكون آخر المعارك، ويرون أن أيَّةَ حُلولٍ هادفةٍ لتحقيق أمن مُستدامٍ لكيانهم لا يمكن أن تتحقَّقَ بمُعزلٍ عن تسويَةٍ دائمَةٍ للصِّراع مع النِّظام القائمِ في إيران والذي ترون في توجُّهاتِهِ خَطرًا استراتيجيًّا على إسرائيل، ولكونه يتحكَّمُ بقراراتِ جميعِ المُنظَّمات المُسلَّحةِ التي تُمسِكُ بمُختلفِ جَبهاتِ القتالِ الناشِطَةِ حالِيًّا في كل من غزَّة ولبنان والعراق واليمن، والتي يوفِّرُ لها الدَّعم والتَّدريب، ويمُدُّها بالسِّلاح والأموال ومُختلف التَّجهيزات ويزوِّدُها بالخُبُرات الفنيَّةِ والتِّقنيَّة، بالتَّسيق مع النِّظام البعثي في سوريا، ولا يخفون أنهم يرون الفُرصَةَ سانِحَةً لتَصفيةِ الحِسابِ مع إيران سِلميًّا أو عنوة إن اقتضى الأمرُ توجيه ضرباتٍ تُفضي إلى تقويض قُدراتها العَسكريَّةِ وتقضي على مَشروعها النَّوي، ويرون أنهم أضحوا قادرين على القيامِ بذلك بعد ضرب دفاعاتها الجويَّة، ولكونها عاجزةً عن خوضِ غمارِ حربٍ مُباشرة لتخلُّفِ أسلحتها؛ وقبل كل ذلك اقناعُهم بأن الهِدنَ وما تقومُ عليه من حلول ترقيعيَّةٍ لن تُفضي إلى مُعالجاتٍ نهائيَّةٍ للنِّزاعات، وستبقى أقربُ إلى أنصافِ الحُلول، وبمفاعيل مؤقتة.
لبنانُ، الذي يتخبَّطُ بمَشاكلِه السياسيَّةِ الدَّاخليَّة، والمثقلِ بأزماتِه الإقتصاديَّة، ينتظرُ الهِدنة بفارغ الصَّبر، لاعتقادهِ أنها تُشكِّلُ منطلقُا لمُفاوضاتٍ أشمل تنتهي باتفاق ينهي الحرب القائمة، ولكنَّ بعض المسؤولين فيه يخشون أن تفضي أنصاف الحلول إلى مزيدٍ من التَّعقيدِ السِّياسي والأمني في حال لم يُصَر إلى وضعِ اتِّفاقِ الطَّائفِ موضعِ التَّنفيذِ باعتمادِ آليَّاتٍ سِلميَّة مضمونةٍ دوليًّا.
وبغض النَّظر عما سيؤولُ إليه الصِّراع ما بين إسرائيل وإيران، نقولَ بأن الحلَّ المُستدام في منطقة الشَّرقِ الأوسطِ كل لا بدَّ أن يقوم على مبدأ حلِّ الدَّولتين الذي نادت به الدُّول العربيَّة، كونه الحلُّ الأمثل الذي يحفظُ للشَّعب الفلسطيني حقوقه ويضمنَ له العيش في ظِلِّ دولةٍ مُستقلَّةٍ كاملةِ المواصفات، والذي يشكِّلُ مدخلًا لكل النِّزاعات العالقة.