يبقى لبنان الثقافة هو المهرجان | بقلم هنري زغيب
لم يفاجئْني بيانُ رئيسة “مهرجان بيت الدين” السيدة نورا جنبلاط (“لوريان-لوجور”، الخميس أَمس الأَول) بإِلغاء المهرجان هذا الصيف.. بل كان طبيعيًّا ونبيلًا إِلغاؤُها، وتبريرُه ما يجري في الجنوب لأَهل الجنوب، وما يَحدُث في غزّة من إِبادة نيرونية يقفُ العالم حيالها أَخرس..
وفي تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية AFP قالت رئيسة “مهرجان بعلبك” السيِّدة نايلة دوفريج: “قبل أَن نتَّخذ قرارنا ننتظر تطوُّر الوضع الأَمني في المنطقة.. فلا يمكن راهنًا تنظيمُ أَيِّ نشاطٍ، ومنطقةُ البقاع تتعرَّض أَحيانًا لضربات جوية إِسرائيلية”..
وهذا أَيضًا منطقٌ طبيعيٌّ ونبيل.. فنحن في وضع صعب واستثنائي وضاغط، مع أَنَّ ما يَجري ليس جديدًا من عَدوٍّ نيرونيٍّ هولاكيٍّ لا يحترم قوانين دولية ولا قرارات أُممية.. ذلك أَنه، كما قلتُ في قصيدتي عن خمسينية النكبة (1998): “لا يغتصبُ الأَرضَ ولكنْ… يغتصبُ التاريخ”..
وإِنه هكذا: لا يُركَن إِلى موقف منه أَو هُدنة أَو مفاوضة أَو وقْفُ إِطلاق نار، طالَما حُجَجُه الأُوتوقراطية التيوقراطية مبنيَّة على كتابات توراتية تلمودية تزعم أَنَّ فلسطين أَرضُه، وهي حقٌّ له على أَنها “أَرض الميعاد”..
لن أُناقش هنا تلك المزاعم.. فلَيسَت من اختصاصي لاهوتيًّا ولا تاريخيًّا.. لكن اختصاصي أَن أَقول إِنَّ التخريب الذي يَنويه الصهيونيُّ للبنان طوفانيٌّ قبل الأَقصى بعصور.. وأَعرف كم يُزعجه لبنان بتكوينه وحضارته وفكره وأَعلامه الذين لا يَنفكُّون يُفكِّكُون مزاعمه، ويَصمُدون شعبًا مصمِّمًا على كسْر أَوهامه وادِّعاءَاته..
أَقول “شعبًا” وأُؤمن بشعبنا الجبَّار الذي (باستثناء نفَر منه سلبيّ شكَّاك ضعيف الإِيمان) ما زال يقاوم ببسالة أُسطورية فائقة التصوُّر في معايير الدُول والأَوطان والشعوب.. ففي تاريخ لبنان، قديمِه ووسيطِه والحديث، مراحلُ صعبةٌ قاسية شرسة حاسمة قاصمة تجاوَزَها شعبُنا وقاوَمَ وحافظَ على أَرضه وكرامته وشرَف هويته..
ومقابل ما في فلسطين المغتَصَبة من شعبٍ إِحاديِّ المعتَقَد مُغْلَقِهِ، يَغْنَى لبنان بمزيجٍ حضاريٍّ عريقٍ منفتحٍ (لا بــ”صراع حضاراتٍ” فيه بل بتفاعُلِها)، ما يعطي نُسْغَه الجينيَّ قوةً لن تقهَرَها ولن تتغلَّبَ عليها ولن تلْويها أَيُّ صعوبة مهما تجبَّرت وتجابَرَت وطغى جبروتُها.. فلبنان كأَرزه طاعنٌ في الزمان، ضالعٌ في الأَرض، طالعٌ نحو العُلى شرَفًا، ونحو العُلا هويةً، وباقٍ كذلك جيلًا بعد جيل.. فكأَن في جينات كلِّ طفل لبناني يولد حديثًا قوةً تكوينيةً تجعلُه حين يكبَر يُفَولذُ إِيمانه الراسخ بأَرضه وتاريخه ووطنه..
هذه هي المناعة اللبنانية التي لن يَستطيع إِيهانَها عدوٌّ دياسپوريٌّ مشتَّتٌ في أَراضي الآخرين ويعمل على اغتصاب أَرض يُبيد أَهلها ليستوطنها.. وبهذه المناعة اللبنانية نَقوى وسنقوى ولن نهون.. قد يستهين شريرٌ بدولة لبنان، بسلطة لبنان، وهما في أَيدٍ متَّسخةٍ بالفساد.. لكنَّ أَيَّ شرير سيَنهزم أَمام لبنان الوطن، السائر في الزمان فوق جميع المعوِّقات الآنيّة العابرة مهما طال جُثُومُها..
إِلغاءُ مهرجانات الصيف تدبيرٌ حكيمٌ غيرُ ضعيف.. فمهرجاناتُ لبنان الراقيةُ عائدةٌ، وعائدٌ معها لبنانُ الحياة الذي هو هو المهرجان.. ولن تطغى على سمائه الغيومُ السود، ففي شعبه صلابةُ احتمالٍ كم طَرَدَ المحتلِّين والمغتصبين ورماهُم جلاميد على صخور نهر الكلب.. هي تجمَّدَتْ بدون حياة، وهو مكمِلٌ حياةً ساطعةً تُدَحرجُ الصخرة عن كل قبرٍ يَنوي أَعداؤْه دفنه فيه..
قيل الكثير عن لبنان، ويقال فيه الكثير، وسيقال بعدُ أَكثر.. لكنَّ المعادلة التي ستظلُّ تعلو على كل قول، أَنه لبنان الأُعجوبي، والـمِثَالُ في كل زمان ومكان..
نشر المقال في “النهار” أولاً.