وها قد أصبح للطعام منابر… أو منابر للطعام …! | بقلم المحامي كمال الحلّاني
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لقد كانت السيدة الراحلة أم كلثوم ترفض الغناء في النهار، وكانت تجاوب بحدة وعصبية على أسئلة الكثيرين المتكررة من صحافة وإعلام ومتعهدين فنيين: “من دا الحمار يللي يغني في النهار…!”
ولقد كانت تقصد بمعنى أوضح وأفصح أن للنهار أعماله وشجونه وهمومه ومسؤولياته… وهو ليس الوقت المخصص للكيف والسلطنة!
وعليه… فتصور معي صديقي القارئ… أنك تحضر حفلاً فنياً في النهار… وأنت تفكر بإستبدال دواليب سيارتك أو تأمين البنزين لها بعد الحفل… أو تغيير قارورة الغاز في منزلك لغاية إعداد الطعام أو غيره من شوائب القلق اليومي.
وأن السيدة أم كلثوم كانت ترغب من جمهورها الحضور ليلاً متفرغاً ومستمعاً بكل جوارحه وصاغياً لصوتها العذب وفنها الراقي.
وكانت أيضاً تمنع تقديم وجبات الأكل والمشروبات على أنواعها في كافة حفلاتها… وذلك كي لا يختلط مزاج الجمهور ويتحول إنتباهه الى ما تبغيه نفوسه من شهوات الطعام والشراب واللهو.
وعليه، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر… فإن والدي المرحوم “المناضل والشاعر سعدالله الحلّاني” كان يردد على مسمعي مراراً وتكراراً في صغري حادثة طريفة جرت حين قام وبادر في العام 1955 بإجراء حفل تكريمي تخلله مأدبة غداء على شرف وحضور القائد المعلم الشهيد كمال جنبلاط وذلك على ضفاف نهر العاصي في منطقة الهرمل… حضر الحفل العديد من فعاليات المنطقة ووجهاء العشائر؛ ولكن يبدو أن أحد وجهاء العشائر في حينها قد أعجب كثيراً بالأطعمة المقدمة التي كانت تحتوي على كميات كبيرة من اللحمة المعدة بالسمن الأصلي… وأن كراديش اللحمة قد أثرت كثيراً على مزاجه… فكان يردد منفعلاً بعد أن يمسح شاربيه المعكوفين بعد كل جولة أكل بأنه بالفعل هذا الحزب هو حزب شرف وحزب كرم وحزب دسم وحزب عظيم… وكان يقصد في حينها الحزب التقدمي الإشتراكي.
وأنا إذ أذكر أيضاً قصصاً أخرى وهي من الطرافة بمكان… أن الشهيد رفيق الحريري كان يقيم في دارته في قريطم خلال شهر رمضان من كل عام العديد من ولائم الإفطار لكل الفعاليات في المناطق اللبنانية، ثم يسمح بعدها للحضور الحوار معه وتقديم النقد أو الذمّ أو الثناء على سياسته. وتسنّى لي عدة مرات حضور بعضها حيث كان شركائي على طاولة الإفطار يرددون أحياناً بجدية وأحياناً على سبيل الفكاهة “كيف لنا عين أو لدينا الجرأة بعد أن تناولنا الإفطار في داره وأصبح بيننا وبينه خبز وملح بأن نقدم على ذمّه ونقده؟”
وإن زبدة الخلاصة التي أقصدها من سرد هذه الوقائع والقصص كلها… أنه من المعيب والمهانة بمكان… وفي أسوأ الظروف الإقتصادية التي نعيشها… أننا نتفاجأ بمشاهدتنا اليوم على مواقع التواصل الإجتماعي قيام أغلب المرشحين أو الطامحين للمواقع النيابية والنقابية والمهنية وبعض الشعراء والأدباء والكتّاب… بطرح مشاريعهم إن وجدت، وأفكارهم التغييرية… أو قصائدهم الخنفشارية… مصحوبة مع صحن فتوش أو قصعية فول… وفي أحسن الحالات مع شيش لحمة وجاط من الخضار متوج بالبصل… حيث ينبري بعضهم خلالها الى إعتلاء منبر الطعام شارحاً أفكاره ورؤياه أو ملقياً قصائد التبجيل أو التدجيل على الحضور الغارق في صحون الطعام …!
وبعد… إن في ذلك ذروة من المهانة والإذلال والتحقير للداعين والمدعوين المشاركين… خاصة لتجاهلهم للأزمات التي يعيشها شركاء لهم في الوطن… فقراء معدمين أو محدودي الدخل…!
وإنني آسف جداً بأن أعيش في حقبة زمنية مريبة أصبح للطعام فيها منابر أو منابر فقط للطعام…!
ولكم مني السلام.