في ذكرى رحيل العلامة (٣): إلى الروح…السيد محمد حسين فضلُ الله | بقلم أكرم بزي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لمن فاتته متابعة الجزئين السابقين :
- في الذكرى السنوية الحادية عشر لرحيله : تيار فضل الله والدور المطلوب اليوم
- في ذكرى رحيل العلامة (٢): إنّ في بيروت فضلُ الله
أثناء عملي في صحيفة “السفير” رن الهاتف قرابة الساعة الثامنة والنصف ليلاً، وإذ بموظف الاستقبال على الهاتف يقول لي “السيد محمد حسين فضل الله معي على الخط ويريد التحدث معك”، قلت له هل أنت متأكد أنه يريد التحدث معي أم مع رئيس التحرير طلال سلمان أو غيره من المسؤولين آنذاك، فقال لي: “يريدك انت”، وحوّل ليّ الخط، فبادرني السيد فضل الله بالكلام مباشرة، “لدينا أقرباء في “السفير” ولا نعلم” أجبته: العفو مولانا لم تسنح لي الفرصة بملاقاتك يوماً وأنا بخدمتكم، وهنا جرت محادثة لأقل من دقيقتين وسألني بضعة أسئلة وأجبته، ووعدت بزيارته، وعندما أقفلت الخط سألت نفسي من أنا كي يتصل بي السيد فضل الله ويسلم عليّ ويسألني تلك الأسئلة، بقيت مندهشاً لدقائق مزهوّا بنفسي وقلقاً في آن واحد، (آنذاك اذا كان أحدا من الوزراء او الزعماء او إعلاميين أجانب اذا أرادوا رؤيته كانت تعطى لهم المواعيد بعد أيام واسابيع)، ومن لحظتها بدأت علاقتي الشخصيّة بسماحته وبدأت أتردد على منزله لزيارته. قبلها كنت لا أعرفه الا من خلال ما أقرأه وأسمعه عنه في الصحف والخطب والتي كانت تملأ الفضاء آنذاك.
لم أرَ رجلاً في حياتي يعمل ويشتغل بكدّ كما كان يفعل آية الله السيد محمد حسين فضل الله رضوان الله عليه، هذا الإنسان العالم العلّامة بشهادة زعيم الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، وأحد أساتذته، آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، الذي سُئل عنه في أحد المرات وأجاب: ” إن وكيلنا المطلق السيد فضل الله هو مجتهد وله رأيه، ويده يدي ولسانه لساني ورحمة الله وبركاته”.(صورة فتوى السيد الخوئي مرفقة بالمقال)، وسألت بنفسي أحد المشايخ المجتهديين العراقييّن والمقيمين في مدينة قمّ من حوزة السيد محمد باقر الصدر رحمه الله عن أعلم من في الحوزة فأجابني: “ولوو” أنت تسأل ذلك، فمرجعيّة السيد فضلُ الله واضحة كالشمس”، وسألت أيضا آية الله السيد عبد الصاحب الحسني رحمة الله عليه عن الأعلم في لبنان وقتها فأجاب: “الشيخ محمد مهدي شمس الدين مجتهد والسيد محمد حسين فضل الله مجتهد والشيخ حسن طراد مجتهد إلا أن السيد فضل الله يتمتع بهالة قدسية”، (شهادة للتاريخ).
السيد فضلُ الله كان يعمل 20 ساعة يوميّاً، أنا اعلم ذلك والكثير ممن أحاطوه وعملوا معه كان يعلمون أيضاً، بل كان يتعبهم معه لشدة حرصه على عدم إضاعة الوقت، وكانت همومه تنصب على تعزيز طاقات المجتمع، ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة كلها.
قضايا عديدة كانت محور اهتمام للسيد، القضية الفلسطينية والوحدة الإسلامية، والمقاومة والأيتام، فهذه القضايا الأساسيّة والجوهريّة في حياته اليوميّة كانت شغله الشاغل، وهذا ما يعرفه القريب والبعيد، محبوه ومبغضوه وبشهادات الجميع، فلسطين والوحدة الإسلامية كانتا بالنسبة إلى السيد البوصلة الصحيحة وممنوع ان تخطأ الاتجاه او التصويب، وأما على المستوى الفكري فقد كان الماركسي حين كان يقابل السيد فضلُ الله كان يخرج بانطباع ويقول: “يبدو أنه يفهم الماركسيّة أكثر مني”، لا بل البعض كان يخرج بانطباع وكأن السيّد “أحد الرفقاء”، وكان يشدد دائما على وحدة العمل المقاوم والجبهوي وعدم التنازع والاختلاف على القضايا الجوهريّة، بل كان يقول دائما مهما كانت خلافاتنا دعوها جانبا ونظموا خلافاتكم، وتوحدوا وكونوا قوة واحدة ضد العدو الصهيوني على اختلاف تنوعكم واختلافاتكم وانتماءاتكم. أما عن خدمته للأيتام فقد كانت من المهام الأساسيّة للسيّد مما دفعه للقول في إحدى المرات: “لو اضطرني الأمر أن أشحذ على الطريق للأيتام فلا أبالي”.
قيل عنه: “خميني العرب”، وقيل عنه أيضاً: “السيد البيروتي” وبين القولين فرق كبير إلا أن القاسم المشترك بينهما هو لغة الحسد التي كانت تنطلق من بعض أفواه الحاسدين والمبغضين لنجاحه وفرض حضوره وشخصيته الكاريزماتية على الجميع.
دمشق كانت محجة لكل المسؤوليّن اللبنانييّن دون استثناء، هذا يريد الوشاية على ذاك والآخر يريد اطلاع المسؤولين السوريين على إنجازاته في وزارته والآخر يريد خدمة لتوظيف ابنه او احد اقربائه وهذا يريد دعماً لحزبه او جمعياته، وكان المفتاح آنذاك “العميد غازي كنعان” الذي كان يدير الملف اللبناني برمته، والذي كان يمسك برقاب المسؤوليّن اللبنانييّن كبيرهم وصغيرهم، إلا شخصاً واحداً، كان السيد محمد حسين فضلُ الله، والذي على ما أذكر أن الرئيس حافظ الأسد طلب مقابلة السيد فضلُ الله شخصيّاً فحدد الموعد وكان اللقاء. وعندما انتهى اللقاء سُئل الرئيس الأسد عنه فأجاب: “إن هذا الرجل نظيف، لم يسئل شيئاً لنفسه أبداً”.
لم يكن السيد فضلُ الله رئيساً لحزب أو اميناً لحركة، إلا أن قاعدته الجماهيريّة امتدت على بقاع الأرض جميعها، وله مقلديّه حتى هذه الساعة في كل بقاع الأرض، بالرغم من حملات “التضليل” والتشويه، إلا أن حضوره ما زال متألقاً في قلوب محبيه ومريديه أينما كان. ويكفي شهادة الأمين سماحة السيد حسن عندما قال: “كان لنا أباً رحيماً … إن روحه الزكية، وسيرته العَطرة، ومواقفه الصلبة، بقيت فينا.. تلامذته ومحبيه ونحن منهم .. ).
ظُلم السيد محمد حسين فضلُ الله من كثيرين، ممن كانوا يتوددون له، ويضمرون الحسد والبغض في آن. ولا داع للدخول في التفاصيل. كان يعرف ذلك معرفة دقيقة وكان دائماً يقول سامحهم الله، ولي الله وأشكوهم الى جدي رسول الله.
برحيلك يتمتنا مرتين يا سيد …
رحمك الله يا سيد، رحمك الله أيها الإمام، رحمك الله يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته.
تحية لروح السيد محمد حسين فضلُ الله من القلب.