ازمة لبنانالاحدث

الطبقة السياسية اللبنانية أسيرة الكلفة الغارقة | كتب البروفسور بيار الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

كما أَشَرتُ في مقالي السابق ( 24 حزيران/يونيو) فإن نظرية الوكالة تقوم على العلاقة بين شخص يُفوِّضُ العمل (الأصيل) وشخصٌ آخر (الوكيل) يُنفِّذُ هذا العمل. يرتبط هذا المفهومُ بمفهومٍ آخرٍ في علمِ الإدارة هو مفهوم تصعيد الالتزام (Escalation of Commitment) أو ما يُعرَف بتوسيع نطاق الالتزام، وهو ظاهرة تنطوي على استمرار الالتزام بالموارد للمشروع بعد أن يتلقّى صانع القرار ملاحظات سلبية حول أداء المشروع (Brockner).

هناك قدرٌ كبيرٌ من الاهتمام بدراسة تصعيد الالتزام في أدب الإدارة. قُدِّمَت الدراسة الأساسية للتصعيد بواسطة “ستو” ( Staw) حول مفهوم التبرير الذاتي كتفسيرٍ لتصعيد الالتزام. في هذه الدراسة يوجد وكلاء يتحمّلون مسؤولية شخصية عالية عن المشروع كانوا أكثر عُرضةً للتصعيد بعد الحصول على تعليقات سلبية حول المشروع بسبب الحاجة إلى تبرير القرار من أجل الظهور بمظهرٍ قادرٍ أو مُؤهّلٍ لإكمال مهمة ما. يخلص “ستو” إلى أن التصعيد هو ظاهرة مُتكَرّرة وأن الأفرادَ لديهم مَيلٌ للإنغلاق في مسارِ عمل، ووضع الخبر السيىء جانباً أو تخصيص موارد جديدة لمسارِ عملٍ خاسر.

من خلالِ تجربةٍ اختبارية، أظهر هاريسون وهاريل أن الأشخاص أكثر ميلاً للسير بمشروعٍ فاشلٍ للاعتقاد بأنهم يمتلكون الخصوصية لمعلومات حول احتمالية نجاح المشروع، وأن القرار بإنهاء المشروع من شأنه أن يضرّ بسمعتهم. هذه النتائج بدت متوافقة مع نظرية التصعيد. دراسات لاحقة عديدة اسفرت عن نتائج مُماثلة.

يمتلك هذا المفهوم قوّةً خارقة في تفسير سلوك الطبقة السياسية اللبنانية في التعامل مع كلٍّ من الأزمة السياسية والانهيار الاقتصادي على السواء. حيث يُجيب عن الكثير من الاسئلة التي تم طرحها بشكلٍ خاص خلال العامين الأخيرين حول الاستغراب وعدم فهم ما الذي يدفع مُتّخِذي القرار في الطبقة للاستمرار في تعنّتهم وعنادهم رُغم إدراكهم أن السفينة تغرق اكثر مع المزيد من التعنّت.

عبّر مُعظَم الممثلين الديبلوماسيين الأوروبيين، وبخاصة الفرنسيين، عن استغرابهم بل صدمتهم من ناتج هذا السلوك واتهموا السياسيين باللامسؤولية عن شعبهم ومستقبل بلدهم، ويعتقد معظم اصحاب الراي المستقل من النخب اللبنانية ان سلوك هذه الطبقة يفتقد إلى الرشد السياسي، وينزع بعض الغُلاة إلى القول انهم جزءٌ من مؤامرة لتدمير لبنان الذي وُصِف يوماً بسويسرا الشرق.

بغض النظر عن نوايا الطبقة السياسية ومدى صحة خبث نواياها التدميرية، فإنّ الأكيدَ أن سلوكَ مُتّخذي القرارات ضمنها (بصفتهم وكلاء عن الشعب الممثل بالشرعيىة الطائفية لكلٍّ منهم) ينطبق أكثر على نظرية تصعيد الالتزام. لماذا؟

لأن الوكلاء (مجتمع المدراء في الشركات ومجتمع السياسيين في أنظمة الحكم) ينظرون الى التغيير بصفته تدميراً للإستثمار المُتراكِم في نظامِ الحكم، وأن التنازل سيعني خسارة كل شيء.

هنا ايضاً نعود الى نظرية تصعيد الالتزام التي وجدت روابط بين هذا التصعيد ومفهوم الكُلفة الغارقة (Sunk Cost)، أي تلك الكُلفة التي استثمرها النظام ولكن التي لا يمكن إعادة تسييلها بحيث يتحوّل كلّ تنازلٍ إلى تنازلٍ لا عن الأوضاع الحالية فحسب، بل أيضاً عن كلِّ البناء الذي تم استثماره منذ تأسيس النظام.

ينطبقُ ذلك بشكلٍ خاص على التوازنات الطائفية ضمن الدولة، لذلك نجد مُمثلي الطوائف ينزعون للتحذير من أيّ تغيير قد يضطرهم للتخلّي عن مكاسب ضمن النظام تُعتَبَر استثمارات طائفية مُتراكمة (لن نعود الى القمقم بعد أن خرجنا منه، لن نقبل بإسقاط الطائف، الرئيس لم يعد “باش كاتب” إلى ما هنالك من نزوعٍ للتمسّك بتلك الاستثمارات التي ولّدت امتيازاتٍ مُتراكمة).

إستمرّت الولايات المتحدة في حرب فيتنام رُغمَ أن مسارَ الأحداث كان يُثبت كل يوم أنّ الأمرَ يتّجه نحو هزيمة مُذِلّة. كما أن هناك شواهد كثيرة من مسار الحرب العالمية الثانية وإصرار الرايخ على الاستمرار في الحرب، وشواهد عالمية كثيرة عبر التاريخ تُثبتُ التشبّث بتصعيد الالتزام وتُثبت في الوقت عينه لا عقلانية هذا التشبّث.

فإلى متى يستمر تصعيد الالتزام في لبنان؟ أم أن هذا التصعيد مُشتَقٌّ من تصعيدات أكبر من لبنان؟ أم الإثنين معاً؟

ينشر بالتزامن مع ” أسواق العرب” : اضغط هنا

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى