شكّلت القضية الفلسطينية منذ نشوئها الحدث الأبرز على مستوى الكرة الأرضية منذ أكثر من 73 عاماً، ولم تحظَ أي قضية طيلة هذه الفترة بمثل ما حظيت هذه القضية من كم هائل من الدسائس والمؤامرات والخيانات والاغتيالات وتزويراً للمفاهيم والأفكار “المسممة” والتي أريد من خلالها طمس حقائق جوهرية لها علاقة بكينونة وماهية هذه القضية، لإقناعنا بأن هذه القضية تخص “الفلسطينيين” وحدهم ولا علاقة بأي طرف آخر بأن يتدخل بها، حتى وصل الأمر الى تفتيت وتشتيت الفلسطينيين أنفسهم إلى مجموعات متناحرة فيما بينها، ووصل الأمر إلى أن يكون ما يسمى “منظمة التحرير الفلسطينية” (الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني)، بعد اتفاقيات “أوسلو” (1993)، وبالتالي أي مفاوضات أوتسويات لا تعقد خارج هذا الإطار، وأي فصيل آخر لا يعترف به إلا أن يكون ضمن دائرة “منظمة التحرير”، بل وتم تصنيف معظم الفصائل الأخرى خارج المنظمة بـ “منظمات إرهابية” ويجب معاقبتها.
وبموجب اتفاقية أوسلو تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية عن ثمانية وسبعين بالمائة من أرض فلسطين التاريخية للاحتلال الصهيوني وبالتالي خرجت تلقائيا كامل تلك المساحة من دائرة التفاوض مما وجّه طعنةً لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذي كانوا ولا زالوا يحلمون بالعودة إلى ديارهم. مقابل تنازل المنظمة عن فلسطين لم تعترف دولة الاحتلال للشعب الفلسطيني بدولة مستقلة، بل أقرّت بأن المنظمة هي “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” بهدف إضفاء شرعية قانونية على تنازل الموقِّعين الفلسطينيين عن أرض.
تسببت الاتفاقية بتشتت الشعب الفلسطيني بين لاجئ مشرد خارج الوطن، ومقاوم محاصَر من الكيان الصهيوني من جهة ومن الأنظمة العربية المحيطة من جهة أخرى. وفتحت “أوسلو” باب التطبيع مع الاحتلال على مصراعيه وسمحت لمن كان يتعاون مع الاحتلال الصهيوني تحت الطاولة ليظهر إلى العلن وبدون أي خجل بحجة أن “المنظمة” اعترفت بهذا الكيان ولن نكون ملكيين أكثر من المنظمة على حقوقهم. لا بل قامت المنظمة من خلال “السلطة” الممنوحة لها في الضفة الغربية بالقيام بعمليات أمنية ومراقبة الفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى لمصلحة الكيان الصهيوني وضد مصالح الفلسطينيين! تحت ذريعة التنسيق الأمني بين السلطة وسلطات الاحتلال الصهيوني، وتقوم بموجبه بالاعتقالات لرجال المقاومة الفلسطينية!
بدأت الانتفاضات منذ 1987 لغاية الآن وكان السلاح الوحيد آنذاك الحجارة وما تيسر من أدوات قتالية خفيفة، وبالرغم من تفوق الكيان الصهيوني الغاصب بشتى المجالات، إلا أن المقاومة لم تستسلم بل طورت آلياتها وتوسعت أكثر وتجاوزت الفصائل الفلسطينية مرحلة سلاح الحجارة والزجاجات الحارقة التي سادت في الانتفاضة الأولى، فطورت وصنعت أسلحة وصواريخ تمكنت من الوصول إلى مدن وبلدات إسرائيلية، وتلقت مستوطنة سديروت في 26 أكتوبر/تشرين أول 2001 أول صاروخ من صنع فلسطيني أطلقته كتائب الشهيد عز الدين القسام. وبعدها توالت العمليات والانتفاضات في 2005 (هدنة قمة شرم الشيخ)، إلى سبتمبر/أيلول 2015 كثفت قوات الاحتلال إجراءاتها القمعية ضد الفلسطينيين وكررت اقتحاماتها للأقصى. وجرت أبرز المواجهات بين الاحتلال والفلسطينيين في كل من القدس وبيت لحم وبلدة بلعا شرق مدينة طولكرم والخليل، وخرجت مظاهرات مؤيدة للمقاومة ومنددة بإجراءات الاحتلال في كل من غزة ومناطق 1948. وإلى الهبة شعبية التي انطلقت في 28 أبريل/نيسان 2017 من أجل الأسرى في السجون الإسرائيلية، حيث تضامن الشعب مع إضراب الأمعاء الخاوية عن الطعام خاضه نحو 1500 في السجون الإسرائيلية ضد ظروف اعتقالهم، إلى ما عرف بـ “هبة الأقصى” يوليو/تموز2017.
استطاعت المقاومة الفلسطينية الممثلة بالفصائل الإسلامية والعلمانية خارج اطار منظمة التحرير وبعد ما سمي آنذاك باسم: “الجرف الصامد” و”العصف المأكول” في العام 2014، ولغاية الآن أن تراكم الكثير من الخبرات القتالية والصاروخية و”العقول الإلكترونية”، فجاءت أحداث الأسبوع الماضي في حي الشيخ جراح في القدس، وأحداث المسجد الأقصى، لتعيد اشتعال الجبهة الفلسطينية وعلى كافة أراضيها، (أراضي الـ 1948، والضفة الغربية وغزة)، وألحقت الهزيمة بالاحتلال الصهيوني مرة أخرى، وتثبيت قوة المقاومة الصاروخية، وإرادة أهالي مناطق الـ 48 بالانتفاضة، والتي لا تقل قوة عن الصواريخ بما أحدثته من إرباك، دفع بالقيادة الصهيونية لإعلانها مناطق عسكرية وحاصرتها منعا لتوسع الانتفاضة داخلها.
الخبرات وتراكم الإنجازات وصناعة الصواريخ ومساعدة الحلفاء أتاح لـ المقاومة أن تقوم بما تقوم به اليوم من قصف طال معظم المدن والمناطق والمستوطنات الصهيونية على مساحة فلسطين المحتلة بحيث لم يبق منطقة إلا وتطالها الصواريخ، مما خلق الإرباك والضياع لدى الكيان العبري من حجم المفاجآت التي لم تكن في حسبانها ولا أبالغ إذا قلت بأنها باتت أضحوكة أمام العالم أجمع، فبدل من أن تنقل معاركها الى داخل إيران (بحسب نتنياهو) وتهديدها بضرب وتدمير المفاعلات النووية الإيرانية، استطاعت المقاومة الفلسطينية وبدعمها المتواصل من حلفائها من قلب الطاولة وضرب الكيان الصهيوني في الصميم “تل أبيب” وباقي المناطق الأخرى.
ومهما كانت نتائج هذه الحرب المستعرة الآن في فلسطين المحتلة، إلا أنها حفرت في وجدان الجميع أن المقاومة تستطيع أن تحرر فلسطين كل فلسطين من الاحتلال الصهيوني اذا ما استمرت مراكمة الانتصارات، وعدم الانصياع الى كل الوساطات الدولية والإقليمية، والتي يراد منها إعطاء جرعة راحة للقيادة الصهيونية وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإلى طاولة المفاوضات بين السلطة وقيادة الكيان الغاصب بما يتيح لها مستقبلاً القيام بتنفيذ مخططاتها ومتابعة مسلسل التطبيع وتضييع ما تبقى من حقوق للفلسطينيين وهذه المرة بمؤازرة حفنة المطبعين العرب. خاصة وأن هناك من يتربص داخل قيادة منظمة التحرير للاستثمار السياسي في إنجازات المقاومة بما يحقق له مكاسب شخصية له ولزمرته على حساب القضية الأساس.
لقد أثبتت مسارات القضية الفلسطينية إنها قضية إنسانية تخص كل شعوب العالم وليس الشعب الفلسطيني وحده، بما تمثله من أمثولة لقضايا التحرر الأممي في العالم أجمع، وأنه يمكن للأحرار في هذا العالم أن يتصدوا لآفات الإمبريالية المنتشرة في الكرة الأرضية وأن يقوموا بتحرير الفكر والعقل من كل آثار “اللقاحات” الليبرالية والرأسمالية المتوحشة ونتاجها الفكري والنظري، والقيام بما يمليه “الضمير الفطري” (إذا جاز التعبير)، والوصول الى الانتصار وتحقيق الأهداف المقدسة والنبيلة وتحرير كل الأراضي المحتلة وطرد المحتل مهما علا جبروته من خلال الإرادة والصدق والتضحيات والمقاومة المسلحة وغير المسلحة، فـ “ما ضاع حق ورائه مطالب”.