ازمة لبنانالاحدث

لبنان: “مش كل مرّة بتسلم الجرّة” بقلم البروفسور بيار الخوري

كان من عادتي أن أسأل طلّابي سؤالاً روتينياً: ما هي مشاريعك وبرنامجك بعد التخرّج؟

هناك دائماً جوابٌ طاغٍ هو السفر. كان ذلك مفهوماً مع صعوبة الحياة اليومية في لبنان والتراجع المُتدرّج في فُرصِ العمل منذ نهاية الالفية وغلاء الخدمات وقس على ذلك.

نعرف اليوم ان خيار السفر قد بات وجهة معظم اللبنانيين مع تداعيات الأزمة الإقتصادية، وانهيار مستوى الدخل، وضياع الودائع، وانعدام فُرَصِ العمل.

قد لا يكون اللبنانيون محظوظين في ايجاد وجهةٍ للسفر في ظل الأزمة الإقتصادية المُتنامية عبر العالم، وسياسات العُزلة المُطبِقة بعد جائحة كورونا. وقد لا يكونون محظوظين خصوصاً بعد كارثة الرابع من آب (أغسطس)، لأن هذه الكارثة قد أدخلتهم في معادلة جديدة يتحدّد على أساسها خيار البقاء مُقابل السفر، وهي تُرجّح أفضلية السفر وفقاً لمقارية تستند الى تحليل المخاطر وتحديدها.

تقوم خيارات البشر على موازنة المخاطر بالمردود. صحيح أن هذا المبدأ ينطبق بشكل رياضي دقيق في علوم المال والإستثمار، وهو يُستخدَم أيضاً في العلوم العسكرية، ولكنه يصلح في كل مجال يتعرّض له الإنسان لامتحانِ مُوازَنةِ المخاطر بالمردود.

تقوم إدارة المخاطر على مبدأ رئيس هو القبول حصراً بالمخاطر المحسوبة (calculated risks)، ويختلف الناس في درجة الإستعداد لقبول المخاطر، لكن مهما كانت هذه الدرجة فيجب ان تكون محسوبة.

وتُعرَف المخاطرة المحسوبة بأنها عندما تكون لدى الإنسان فكرة وافية عن كلفة هذه المخاطرة، وأن يكون نفسياً ومادياً واجتماعياً مُستعدّاً لتحمّل الخسارة الناتجة عن هذه المخاطرة مهما بلغت. بالمقابل فإن قبولَ الإنسان بركوبِ هذه المُخاطرة هو لأنه، وبشكل محسوب أيضاً، يتوقّع عوائد تُجزيه عن عبء تحمّل الخسارة في حال كان ناتج المخاطرة إيجابياً.

لنقل أن رجلَ أعمالٍ قد قرّر السفر في شروطٍ مناخية عاتية لأجل توقيع صفقة، فهو يعرف أن هناك احتمالاً ضئيلاً أن تقع الطائرة وتودي بحياته، ولكن هناك أكثر من 99% احتمالاً ان يصل الى وجهته ويفوز بالعقد فيأخذ قرار السفر.

ماذا لو أخذنا مخاطر غير محسوبة؟ يتحوّل الأمر فوراً الى مبدأ المُقامرة الذي يقوم على نسبة ضئيلة من الحساب ونسبة حاسمة من الحظ. قد يُسعف الحظ المُقامر مرة أو أكثر، لكن تكرار العمليات عينها بالطريقة ذاتها سيلغي عامل الحظ وفقاً لعلم الإحتمالات.

أعرض ذلك لأعود إلى ما آلَ اليه الوضع في لبنان بعد الرابع من آب (أغسطس)، حيث اعتُقِدَ ان نسبة المخاطر التي يتعرض لها اللبنانيون اليوم قد باتت غير محسوبة، بل باتت نوعاً من أنواعِ المُقامرة على طريقة ” مش كل مرّة بتسلم الجرّة”.

بالتالي فان الخيار الرشيد للبنانيين اليوم وبدافع غريزة البقاء والسليقة السليمة يؤول الى تفضيل المغادرة.

هكذا تصرّف اللبنانيون عبر أزماتهم، وهكذا سيتصرّفون اليوم مع الملاحظة بأنه خلال الحرب الاهلية، ورُغم كثافة السفر، فقد كانت هناك مناطق واسعة في لبنان يُعتَبَر العيش فيها مخاطرة محسوبة.

لا يتوفّر هذا المعطى اليوم، لأن مصدر الخطر الذي كان معروفاً الى حدٍّ ما خلال الحرب الأهلية لم يعد معروفاً اليوم. إن ذلك يُحتّم التوصل سريعاً إلى تفسيرٍ مُقنع، ومُحاسبة مُقنِعة لكارثة المرفأ واولويّة الحلّ السياسي بأسرعِ وقتٍ مُمكن.

رابط المقال اضغط هنا

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى