الاحدثالجيوبوليتيك الروسي
أوروبا الخاسر الوحيد في الحرب الأوكرانية | بقلم علي الهماشي

لست من الذين يطلقون النتائج بهذه السرعة لكن الأوروبيين كتبوا سيناريوهات عديدة لحرب أوكرانيا، وأرادوها استنزافاً لروسيا، ولكن مجيء ترامب غَيَّرَ قواعد اللعبة، وقلب المعادلة.
كانت عودة ترامب لسباق الانتخابات الأمريكية إنذاراً لساسة أوروبا فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، وبدأوا برسم منحنى آخر في التعامل معها قبل أشهر من نتائج الانتخابات الأمريكية تحسّباً لتغيير الإدارة الأمريكية، و قد تغيرت بالفعل وجاء ترامب.
بعض الأمور أرادوها بفرض واقع على الإدارة الأمريكية الجديدة ،كما فعلت الإدارة الديمقراطية في الفترة الحرجة بعد إعلان فوز ترامب حيث عمدت إلى الإسراع في تجهيز أوكرانيا بأسلحة متطورة لإدامة زخم المعركة.
المعاناة الأوروبية جراء حرب أوكرانيا :
لقد عانت أوروبا اقتصادياً وكان تمويلها للحرب مكلفاً لعدد كبير من دولها، بل ان الجاليات الأوكرانية التي هاجرت الى أوروبا أحدثت خللاً واضحاً في البنية السوقية وفي نوعية العمالة، إضافة إلى قسماً منهم بقي عاطلاً عن العمل يعيش على المساعدات المخصصة لهم، وينقل قسماً منها للإدخار إلى بلده في حالة استنزاف متواصلة بمعنى يعود قسم منهم مرة أخرى بعنوان مهجر أو مهاجر بسبب الحرب.
كما أنَّ الانفاق الخارجي لهذه الدول ازداد أيضا لادامة الحرب الأوكرانية، وبدأت مخازن السلاح تشهد نقصاً نوعاً ما (وان كان تاريخ بعضه يعود الى عشرات السنين وربما خرج من الخدمة ) ، هذا الانفاق أدرجته الدول في ميزانياتها العسكرية، كما انها اضطرت لتغيير خططها التسليحية جراء هذه الحرب أو ما يعبر عنه بزيادة الانفاق العسكري على حساب الأمور الحياتية الأُخرى ، كل ذلك كان له أثره على المواطن الاوربي خلال السنوات الماضية من هذه الحرب.
فارتفعت أسعار المواد بصورة تدريجية وازدادت أسعار الطاقة بشكل كبير أرهق المواطن الأوروبي لكنه لم تصل حتى الآن للتذمر العلني !!.
ورسمت سياسات دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا مواقفها على هذا الاساس مع ضمان تأييد الولايات المتحدة ضمن حلف الناتو .
كانت إدارة بايدن تتناغم مع رغبة أوروبا وقطعت كل اتصالاتها مع روسيا باستثناء الخط الساخن المتعلق بالأحداث النووية وإطلاق الصواريخ العابرة للقارات.
لقد كانت الأمور تسير بهذا الاتجاه واعتبرت أوكرانيا حائط الصد لاطماع بوتين في أوروبا! وتم تصويره على أنه الشرير الأول الذي يهدد الدول الأوروبية، وأنه هتلر الجديد بغض النظر عن الخسائر البشرية التي طالت الأوكرانيين، إضافة إلى البنى التحتية وخسائر السوفييت أيضاً ..
واستمرت التغطية الإعلامية بالإضافة إلى مقالات يومية تزرع في ذهن المواطن الأوروبي خطر بوتين، واتخذت اجراءات احترازية أُخرى في الإعلام بل إنها فرضت (طوارئ) معينة إذا ما ظهر مؤيدون لروسيا بوتين، بينما تم تسويق الرئيس الأوكراني على أنه بطل حرب.
فيما ظهر لنا الرئيس الأمريكي ترامب ليصفه بالتاجر بعد فوزه بالانتخابات ثم كان أكثر حدة خلال اليومين السابقين ليصل إلى ديكتاتور رئيس بلا انتخابات ومضلل (وكلها ضمن عملية ضغط للرضوخ الى الضريبة التي فرضها على أوكرانيا )، لقد أعلن ترامب بعد فوزه أنه سيوقف الحرب الأوكرانية ويؤكد أنها لم تكن لتبدأ لو كان رئيساً للولايات المتحدة، وهذا ما أزعج الأوروبيين بل أقلقهم كثيراً ، ويبدو أنه لم يكتف بذلك فهو رفض علنا دخول أوكرانيا في حلف الناتو ، وهو أحد أسباب الحرب الروسية على أوكرانيا التي لا تريد محاصرتها من قبل الناتو، وهو ما سيمثل انتصاراً للناتو فيما لو دخلت أوكرانيا إليه لا لقوة أوكرانيا بل ان ذلك سيمثل تغييراً جيو عسكري للناتو على حساب روسيا الاتحادية ..
وقف الحرب على طريقة ترامب :
والملفت للنظر إنه بدأ عملية ضغط واضحة على زيلنسكي من أجل البدء بمراحل وقف الحرب ، وليس ذلك فقط بل طالب بتنازل أوكرانيا عن نصف ثرواتها المعدنية !!!.
ولوح بقطع المساعدات الأمريكية بل طالب بثمن ما مضى منها ، ووضع بديلا لهذه المطالبة بالاستثمار بمعادن هذا البلد أي أنه استحوذ على السوق الأوكرانية .
ويبدو أن الرئيس الأوكراني (الديكتاتور على حد وصف ترامب ) قد رضخ للأوامر الأمريكية وحول سيادة البلد التي كان يدافع عنها إلى الأمريكان الذين سيتكفلون بحماية استثماراتهم ويبدو أن هناك تفاهمات أو ستجري هذه التفاهمات مع روسيا خلال لقاء ترامب بوتين في المملكة السعودية وبعيداً عن أوروبا التي أرسلت ماكرون لتفحص الموقف الأمريكي الذي كان محسوماً سلفاً وهي خطط واضحة لدى ترامب وادارته بشأن أوكرانيا.
ويبدو أن الضريبة الترامبية التي يريد فرضها على أوكرانيا كبيرة جداً وبحسب مسودة الإتفاق فإنها تمنح الولايات المتحدة 50% من عائدات استخراج الموارد الطبيعية ، إلى جانب 50% من قيمة جميع التراخيص الجديدة التي تمنحها اوكرانيا لاستغلال هذه الموارد وليس هناك وقت محدد لهذه الفوائد بل إنها لأجل غير مسمى مما يعني حق أبدي مقابل (ضمانة امنية ) لأوكرانيا ،ولم يبين ترامب طبيعة هذه الضمانة .
وقف الحرب وفق هذه المعطيات يعني خسارة أوكرانيا لنصف ثرواتها، و ثمن وقف الحرب لا كما كانت تريد أوكرانيا وأوروبا الغربية بفرض شروط على روسيا لأنها بدأت الحرب وهو ما يسمونها ( الحرب الروسية على أوكرانيا ).
والتساؤل هل كانت فكرة استقطاع 50% من عائدات الموارد الاوكرانية وليدة اللحظة ام ان هناك تخطيط مسبق لهذا الامر !؟
من يقرأ سياسة الولايات المتحدة وطرق فرضها للامور يستنتج أن هذا الامر ليس وليد اللحظة بل كان أحد الاهداف الستراتيجية للولايات المتحدة .
معاناة الأوروبيين:
أوروبا تعاني كلما جاءت إدارة جمهورية للبيت الأبيض و ما وصف وزير الخارجية الأمريكي الاسبق رامسفلد لها بالسيدة العجوز إلا دليل على عدم اكتراث بموقع أوروبا في سياستها، وكانت الإدارة الجمهورية تتحرك دون مشورة أو إعلام حلفائها كما فعل ريغن ومن بعده بوش الأب والابن باستثناء بريطانيا المنسجمة كليا أن لم تكن تابعة أو مؤيدة بالمطلق للقرار الأمريكي دون أي اعتراض ، وحتى هذه اللحظة لم تعترض بريطانيا على الخطة الأمريكية للسلام في أوكرانيا بالرغم من تشددها اتجاه روسيا واتخاذها اجراءات مجحفة ضد رجال الأعمال الروس بحجة علاقاتهم الشخصية مع الرئيس بوتين .
حاولت أوروبا أن تحد من اندفاع الرئيس ترامب في خطته نحو السلام في أوكرانيا وكان مبعوثها الرئيس الفرنسي ماكرون الذي زار واشنطن مؤخراً ووجد إصراراً كما هي العادة من ترامب في رؤاه، ليخرج ماكرون بتصريح مقتضب مع تحذير واضح “إن السلام لا يمكن أن يعني استسلام أوكرانيا “وأضاف أن المحادثات مع الرئيس الأمريكي” أظهرت طريقاً للمضي قدماً لإنهاء الحرب على الرغم من مخاوف من نشوب خلاف عبر الاطلسي ” ..
ويتضح مدى الخلاف بين الطرفين فيما يتعلق بإنهاء الحرب وقد تجلى ذلك بعد أن رفضت الولايات المتحدة إدانة روسيا في الحرب الأوكرانية.
ووقفت موقف الحياد لتتمكن من أن تكون (وسيطة) بين البلدين حيث أن هذا الموقف يمثل براعة سياسية لمن يريد أن يقوم بالوساطة على عكس أوروبا التي تتخذ الجانب المعادي لروسيا ..
كما أن الولايات المتحدة في عهد ترامب تنأى بنفسها عن أي تمثيل لقوات سلام أو فصل بين روسيا و أوكرانيا في المستقبل فيما تم اللجوء إلى مثل هذا القرار الذي سيكون قنبلة موقوتة ترفضه روسيا تماماً وهو ما تتفهمه الإدارة الأمريكية التي تسعى لتأمين مدى الاستفادة من هذا البلد الغني وهو ما يبدو أنها تنجح فيه في الخطوات الأولى بعد أن رضخ زيلنيسكي للضريبة الترامبية !
من كل ذلك يبدو أن أوروبا الخاسر الأكبر في السلام في أوكرانيا وقد أشرت في مقال سابق ان هناك من لايريد السلام في أوكرانيا ويتضح هنا من الذي لا يريد السلام في أوكرانيا، لأنها ستخسر كل شيء ولم تحقق أي نتائج تذكر سوى هدر المليارات من اليورو وتعطل عجلات النمو في بلدانها …
وقد تقبل روسيا بوقف إطلاق النار إذا ما احتفظت بالتقدم الذي أحرزته في الأراضي الروسية التي تبين أنها غنية بالموارد المعدنية أيضا ..