الأزمة الأوكرانية ودروس الأزمة السورية | بقلم مسعود أحمد بيت سعيد
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
من الواضح أن الأزمة الأوكرانية أبعد من كل التوقعات، ويبدو أن مخاضها عسير والصراع حاد وعنيف، وما بطن منه أعمق مما ظهر، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها لن يتقبلوا الهزيمة طواعية، وإذا كانت الإمكانات الروسية يعتد بها من النواحي العسكرية فإن قراءة المشهد بأبعاده الدولية المتناقضة تُبقي القضية المركزية.
والقوة العسكرية قاصرة، إذا لم يسندها التتبع الدقيق لسير الأحداث واستشراف آفاقها وأدوار أطرافها من الجوانب الأربعة، و دونها تبقى عرضة لكل الاحتمالات. ومنذ بدايات الأزمة كانت التقديرات متباينة واتفاق دون اتفاق بأن العملية الروسية محدودة ومتدرجة، و تراهن في بعدها الجوهري على تحول داخلي استنادا لعوامل عدة؛ منها الروابط اللغوية والثقافية والعرقية، و تبعية الحكومة الأوكرانية للنفوذ الغربي، ورعاية التطرف النازي الذي قد يشكل ضغطا معنويا على الشعوب الأوربية، ويولد سخطا داخليا. وهي فرضية في غير محلها، تقلل من قيمة الظروف الموضوعية وما أفرزته من مصالح اقتصادية وسياسية خلال السنوات الماضية والتي تتقدم في أهميتها الاعتبارات الأخرى، وتتجاهل إلى حدٍ ما تراكم حقد تاريخي سيتحول إلى قوة في حال توفر غطاء، وهو ما حصل.
وقد توصف الحكومة الأوكرانية أخلاقيا بكل الأوصاف غير المحببة؛ وتبقى الحروب ليست ساحة مواعظ وإرشاد. فهل كان بالأحرى حسم سريع يُحدث إرباكا داخليا، ولا يترك مجالا لنمو عناصر القوة والمناورة واستعادة النفس والبناء على ما أفرزته من وقائع على الأرض والتي قد تكون خارج الحسابات التقليدية؟ بينما الأخلاقية الروسية عائق ذاتي يعكس نفسه في الجانب الموضوعي بوضوح تام.
وإذا أخذنا استراتيجية الحرب في سورية سنكتشف جمله أخطاء قاتلة؛ حيث إمكانية الحسم كانت، وإرادة في بعض المراحل مع عدم التقليل بالطبع من قدرات وطاقات التحالف المعادي الضخم. و لولا بعض التقديرات الخاطئة ستكون النتائج مختلفة؛ حيث طوقت الجماعات الإرهابية مرارا من كل الاتجاهات؛ ثم يتم التوافق على نقلها إلى مكان آخر وهو ما يعطيها فرصة استعادة قوتها، وتنظيم نفسها من جديد وهكذا باستمرار، وهو تكتيك غير مألوف في الحروب ولم يعطِ نتائج إيجابية. الآن يتكرر نفس السيناريو في أوكرانيا؛ حيث التغاضي عن الإمدادات الهائلة عسكريًا وماليًا وبشريًا تحت غطاء المساعدات الإنسانية وتعزيز القدرات الأوكرانية؛ مما يعني المزيد من الإستنزاف للطاقات الروسية وإطالة أمد الصراع. ولو أخذت روسيا مبدأ الضربة الحاسمة بكل تبعاتها في تغيير موازين القوى بشكل جذري سريع- وهي قادرة- لكانت في وضع أفضل، وليس أدل على ذلك من خطاب الرئيس الأوكراني الذي انتقل من مرحلة المرونة إلى التشدد استنادًا على المتغيرات على الأرض.
لقد أُعلن مؤخرًا دعم الجماعات الإرهابية في سوريّة بالمليارات، بحيث تشتتت القوة الروسية، ومنعها من تحقيق نصرين متزامنين يسوغها قوة عالمية، وينسيها والعالم زمن الهزائم في مواجهة الغرب.
هل في ذهن القيادة الروسية تجربة الاتحاد السوفيتي ونتائجها والتي تمكنت استراتيجيًا من المهادنة والثقة المفرطة في الاتفاقيات واحترامها والحفاظ على السلم والتعايش الدولي بالمفهوم الإمبريالي؟ الأمر الذي يعني في العمق استبعاد طبيعة الرأسمالية العدوانية ونكوثها الدائم بالمعاهدات والمواثيق التي لا تخدم مصالحها.
لم تستخدم روسيا إلى الآن سلاح الطاقة بشكل فعال، وهو من التقديرات غير السليمة. صحيح أن حاجة روسيا للأموال مهمة ولكن حاجة أوروبا للطاقة أهم بكثير في هذه المرحلة، وهي تعمل على خطين متوازيين؛ استيراد الطاقة الروسية من جانب، والبحث عن بديل من جانب آخر. وعندما يتوفر البديل ستتغير اللغة والخطاب السياسي وستكون في وضع أفضل لممارسة المزيد من الضغط على روسيا، وستتبخر بعض مواقفها العقلانية ولا شك روسيا تدرك ذلك جيدًا، لكن عدم استخدامه في الوقت الراهن سيقلل مفعوله وأهميته مع مرور الأيام كسلاح مؤثر بصرف النظر عن التحليلات التي تضخم الحاجة الأوربية للطاقة الروسية استراتيجيًا وهي مقصودة للإيحاء بتعذر البدائل في عملية تخديرية كبرى. ولا يُستبعد أن تلك التحليلات والتسريبات المضللة والمعدة بإحكام هي جزءٌ من آلة الحرب الإمبريالية والصهيونية.
إذا كان الصحيح أن البديل بحاجة إلى وقت يقدر بسنوات، فالصحيح كذلك أن الغرب المنخرط بشكل كامل في الحرب على روسيا لم يدفع أثمانًا موازية إلى الآن، وهو ما يجعل الطبقات البرجوازية الغربية في وضع مريح نسبيًا، يمكّنها من الإفلات مؤقتًا من الاستحقاقات الداخلية المتراكمة، وستكون مواجهة لأزماتها الداخلية في زمن السلم أسهل منها في زمن الحرب.